غزة

19°

وكالة شمس نيوز الإخبارية - Shms News || آخر أخبار فلسطين

خبر صراع على الدور الغزي

بقلم: حسين حجازي

كان كلاوزفيتز الذي يسمى أبو الاستراتيجية هو الذي صاغ المصطلح او المفهوم الشائع «مفتاح البلاد» في كتابه الشهير وربما الوحيد «الحرب»، ويعني بهذا المفهوم أن هناك دومًا منطقة أو مكانًا أوجزءًا من البلاد المراد غزوها، تكون السيطرة عليها أولًا أو احتلالها مفتاحًا أو مقدمة لسقوط وانهيار باقي أجزاء بلاد العدو المراد إخضاعها او احتلالها. وقد نستعير هذا المفهوم لكي نوضح ما تبدو عليه المقاربات اليوم إزاء غزة، التي تعود مرة أُخرى استراتيجيًا وتاريخيًا ليس احتلال صدارة مشهد الصراع فقط، ولكن بنفس الأهمية تلعب مرة أُخرى دور المفتاح.

وفي التاريخ البعيد كان الحاج أمين الحسيني بعد النكبة اختار ان يقيم فيها ما سمي آنذاك حكومة عموم فلسطين، وأن أحمد الشقيري الذي سوف يخلفه أقام بدعم من جمال عبد الناصر البنية الإدارية والعسكرية لجيش التحرير الفلسطيني ومنظمة التحرير الفلسطينية الناشئة حديثًا، منطلقًا أساسيًا وثقلًا سياسيًا ولوجستيًا لها في غزة.

هي إذن لم تكن تلعب هذا الدور الحاسم منطلقًا للغزو أو للتحرير في سياق الحرب، وقد كان هذا الدور سياسيًا أو استراتيجيًا في إطار المقاربات أو المخططات السياسية إما في سياق تسوية القضية الفلسطينية أو اختراقها والعمل على تفكيكها. وخلال الخمسين عامًا شهدنا هذه المقاربات المتعاقبة أو المتعارضة والمزدوجة، والمثالان البارزان ما سمي عامي 1986 و1987 بتفاهمات شمعون بيريس والعاهل الأردني الملك حسين حول تسليم غزة إلى الأردن، لتكون بمثابة ميناء تلعب دور قناة سويس موازية يخدم اقتصاد الأردن، كحل يقوم على قاعدة التقاسم الوظيفي في الضفة الغربية، وهي الخطة التي جاءت الانتفاضة الاولى أواخر عام 1987 لتقضي عليها.

أما المثال الثاني ولكن المعاكس أو المناقض للأول، فهو اتفاق اوسلو نفسه الذي سمي أيضًا في حينه بـ «غزة وأريحا أولًا»، وكان في الأصل أو الموقف التفاوضي الإسرائيلي يقتصر على غزة لتكون هي المنطلق الأول، وتم إضافة أريحا تحت إصرار عرفات. وهو الاتفاق الذي بموجبه تخلت إسرائيل عن احتلالها المباشر لمجموع المدن الفلسطينية لتكون تحت سيادة السلطة الفلسطينية، وهي المقاربة التي قام اليمين الاسرائيلي بعد مقتل رابين نفسه بالتراجع عنها.

يتضح اذن الآن أن الخطة الجديدة إزاء غزة أولًا إنما تقتفي خطة بيريس في الثمانينات، وليس البناء عند ما انتهت إليه مقاربة أوسلو، ولكن مع فارق أن خطة بيريس التي كانت تلحظ دورًا بل شراكة بارزة للأردن، لتحاشي التفاوض مع منظمة التحرير الفلسطينية، فان خطة ترامب وصهره كوشنير لا تستبعد دورًا أردنيًا ولكن على حساب المنظمة والأردن معًا. حينما يبدو واضحًا أيضًا أن المقاربة تجاه غزة أولًا، إنما تستهدف حسم الصراع الاساسي حول السيطرة على الضفة.

ومن الملاحظ أن المقاربة تجاه غزة عام 1987، إنما جاءت في أعقاب فشل خطة عرفات والملك الراحل حسين حول إقامة الكونفدرالية الفلسطينية الأردنية، التي حظيت آنذاك بتأييد ودعم إدارة الرئيس الأميركي رونالد ريغان. أما اليوم فإن خطة ترامب تأتي في أعقاب الفشل الذي انتهت إليه مقاربة أوسلو على يد اليمين المتطرف الإسرائيلي.

سوف تظل غزة ربما على نحو قدري بحكم عزلتها الجغرافية تلعب هذا الدور المتناقض المزدوج، وهو الدور الذي يبلغ اليوم ذروة جديدة، فهي من جهة تبدو كما لو أنها الخاصرة الضعيفة سواء للاحتلال في مرحلة سابقة أو للرئيس أبو مازن والسلطة الفلسطينية نفسها في رام الله، ومن الجهة الإسرائيلية وجد هذا الوضع انعكاسًا له في قرار شارون الانسحاب منها وهدم المستوطنات التي كانوا قد أقاموها عليها. أما بالنسبة للسلطة الفلسطينية أو التصور الفلسطيني عن المشروع الوطني، فان هذا الوضع يجد تعبيرًا عنه في العبارة التي يواصل الرئيس الفلسطيني تكرارها والتأكيد عليها، من انه «لا دولة في غزة ولا دولة فلسطينية من دون غزة».

والوجه أو الدور الآخر فهو أنها تمثل حائط الصد أو الدفاع الصلب التي تحتفظ بمناعتها أو قوتها بالنواة الصلبة للوطنية الفلسطينية. وأن ما يحدث الآن هو أن هذا الدور المزدوج أو المتعارض يوجد أمام اختبار حاسم وغير مسبوق، إزاء ما يبدو فيه الصراع أو التجاذب على هذا الدور مكشوفًا لأول مرة على هذا القدر غير المسبوق بين الوطنية الفلسطينية، وما يجمع عليه الفلسطينيون من وصفهم بالمؤامرة الكبيرة انطلاقًا من غزة. ولعل السؤال المطروح على الحائط او هامش هذا الصراع أو السباق، هو من سوف يكسب الرهان الجديد على غزة؟ أن تكون بمثابة الثغرة التي يمكن النفاذ من بين شقوقها لتفكيك القضية الفلسطينية أو تجزئتها وتذريرها؟، أم أنها كما حدث العام 1987 ستكون المنطلق لقلب الطاولة؟

وهل هذا يفسر لنا دلالة الحادث أو عملية التفجير غير المسبوقة او المألوفة التي تعرض لها موكب رئيس الحكومة  رامي الحمد الله، بعد أمتار من دخوله إلى غزة ؟ ما يعكس ربما ضيق حيلة أو عجز وفشل الطرف المقابل في هذا التجاذب المحتدم حول الدور المراد ان تلعبه غزة؟

لكن المتغير الكبير أو الجديد في المشهد الغزي والصراع على دورها، هو في واقع لا سابقة له، وهو أن الوطنية الفلسطينية تواجه الإدارة الأميركية مباشرةً أو وجهًا لوجه في هذا الصراع على غزة، الذي يحدد مصير السيطرة على الضفة والدولة الفلسطينية، أي مصير المشروع الوطني الفلسطيني. ولكن من سوء حظ اليمين الإسرائيلي الحاكم في إسرائيل والمتناغم مع هذه الإدارة في مخططها، أن هذه الإدارة تخلع القفاز وهي عارية ومعزولة عالميًا بصورة هي الأخرى لم يسبق لها مثيل، ولا تملك إجماعًا أو تحالفًا جديًا أو وازنًا يوافقها الرأي حول مقاربتها الجديدة، عدا عن الضغوط الداخلية المباشرة التي يتعرض لها الرئيس نفسه وصهره كوشنير، الذي يطالب خمسة وعشرون عضوًا في مجلس النواب الأميركي هذا الأخير بإبعاده من البيت الأبيض لأسباب تتعلق بفساده.

ورغم أن غزة تبدو اليوم منهكة ومتعبة أكثر من أي وقت مضى، إلا أن الفلسطينيين مجتمعون وموحدون تبقى لهم الكلمة الفصل، إذا كان المهم والحاسم دومًا هو ما يقررونه وليس ما يقرره أعداؤهم. وهذا هو الاختبار الصعب اليوم أمام الفلسطينيين، إذا كان في قدر غزة أو تعارض أدوارها أنها كانت المنطلق لحدوث ما يسمى اليوم بالانقسام التاريخي، فإنها كذلك وليس أي مكان آخر المنطلق أو المفتاح لإعادة تركيب الوحدة الوطنية بينهم.

 

صحيفة الأيام

جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي "شمس نيوز"

"جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي "شمس نيوز".