بقلم: حسين حجازي
من العنف الثوري أو الكفاح المسلح في مهاد الحركة الوطنية الفلسطينية زمن الفدائيين، سيرًا على تقاليد حركات التحرر الوطني في حقبة تاريخية كانت سمتها الرئيسية عملية نزع الاستعمار او حروب الاستقلال. وكان المصطلح الأول هو المفضل الذي تردده المنظمات والمجموعات اليسارية في أدبياتها، وهو اصطلاح اكتسب شهرته بل قل جاذبيته آنذاك في صفوف اليسار العالمي، من شهرة وجاذبية وإلهام رمز هذه المرحلة الثورية الأرجنتيني تشي جيفارا، كما انتصارات الثوار الفيتناميين في مواجهة الإمبريالية الأميركية وهزيمتها عام 1975.
من استراتيجية العنف الثوري أو الكفاح المسلح، حيث كانت هذه التسمية الأخيرة هي التي ترد في أدبيات فتح، إلى التحول التاريخي الذي حدث دون سابق تنظير أو تمهيد العام 1987، حين اكتشف الفلسطينيون وقد نقلوا حروبهم من المنافي والخارج إلى الداخل في الانتفاضة الأولى مزايا استراتيجية «اللاعنف» بواسطة الحجارة والانتفاض الشعبي.
وهي الانتفاضة التي سوف يقدر لها إنقاذ منظمة التحرير الفلسطينية التي وصفها الرئيس الأميركي ريغان مرة بعد خروجها من قاعدتها في لبنان، «بالجثة الهامدة» التي تتحلل في منفاها بتونس. وهي الانتفاضة التي انتهت بالتوصل الى اتفاقية أوسلو بين المنظمة وإسرائيل وإقامة أول سلطة وطنية على أجزاء شبه محررة من أرض فلسطين.
لكن التحول الثاني سوف يحدث بعد ست سنوات على إنشاء السلطة الوطنية الفلسطينية مع اندلاع الانتفاضة الثانية، التي تنطوي على أسلوب او استراتيجية مسلحة أو عنفية على نحو بدا غير مسبوق أو ربما مبتكر ومغاير تمامًا لحرب العصابات الكلاسيكية أو التقليدية، حيث طغى على هذا الأسلوب ما يسمى بعمليات التفجير الاستشهادية عبر الأحزمة الناسفة.
وكان من دلالة هذه الاستراتيجية نقل التهديد الأمني إلى داخل دولة إسرائيل أو الاحتلال في المدن الاسرائيلية نفسها، وهي الاستراتيجية التي وإن أسقطت في يد إسرائيل التي أدت إلى زعزعة ثقة الاحتلال بقدرته على مواجهتها، فإنها ردت عليها بقسوة هي الأخرى غير مسبوقة، وتمحور هذا الرد في حملة مكثفة ومتواصلة لم تتوقف من الاغتيالات الموضعية لنشطاء الانتفاضة من جميع الفصائل، بما في ذلك اغتيال قادة سياسيين من هذه الفصائل والقيام بعملية اجتياح عسكرية واسعة لمناطق السلطة الفلسطينية، وهي العملية التي انتهت بمعركة مخيم جنين ومحاصرة عرفات في رام الله واغتياله بعد ذلك والتخلص منه بالسم.
أما سياسياً فقد كان من نتيجة هذه العودة المسلحة اختمار فكرة الانفصال عن الفلسطينيين، كما عبر عن ذلك ايهود اولمرت عبر الخطة التي حملت اسمه، وقيام ارئيل شارون باتخاذ قرار الانسحاب من قطاع غزة بما في ذلك هدم المستوطنات المقامة في القطاع لاول مرة، بعد هدم المستوطنات قبل ذلك في سيناء قبل الانسحاب منها. والنتيجة فلسطينياً تبلور القناعة لدى القيادة الفلسطينية بتبني خيار او استراتيجية المقاومة السلمية والدبلوماسية القانونية كبديل عن المواجهة العنيفة او المسلحة.
وهكذا فان التحول الثالث الذي ستبلغ عنده المواجهة المسلحة طابعاً أقرب الى الحروب بمعناها الكلاسيكي، سوف يقتصر على المواجهة مع غزة في ظل الانقسام الفلسطيني وسيطرة حركة حماس عليها خلال الحروب الثلاث التي شنتها إسرائيل على غزة والتي اتسمت بالطابع الوحشي.
ولكن الدلالة التي حملتها هذه الحروب على المستوى الاستراتيجي، هي في كونها أظهرت لأول مرة في هذا السياق الذي نحاول إعادة تركيبه أهمية ومغزى ما يسمى بالحروب غير المتكافئة او «غير التماثلية»، حينما تتفوق نظرية قتال الشبكات والأنفاق على الجيوش التقليدية، وما حملته هذه الحروب مع غزة كما حرب تموز 2006 مع حزب الله من هزيمة إسرائيل، فيما أسماه أحد الكتاب الإسرائيليين وهو جنرال سابق في كتاب صدر في إسرائيل أخيرًا الحرب على الصورة الإعلامية.
إن التحول الرابع إنما كان مزيجًا من استعادة واستلهام الاستراتيجية غير العنفية في الانتفاضة الأولى عام 1987، كما في الصلوات الجماعية في شوارع القدس والتظاهرات الاحتجاجية بالحجارة أمام الحواجز العسكرية في الضفة، الى جانب نوع جديد من العمليات العنفية الفردية، عبر الطعن بالسكاكين أو الدهس بالسيارات في الانتفاضة الثالثة التي جرت حصرًا في القدس والضفة الغربية. وكان من نتائجها تراجع إسرائيل أمام المقدسيين عن إقامة البوابات الإلكترونية، ما بدا هزيمة سياسية للاحتلال فيما سمي بمعركة القدس.
هل نتحقق اليوم ما بعد يوم الجمعة أمس، لا من أننا نبلغ نقطة التحول الخامسة في استراتيجية المواجهة التاريخية الفلسطينية، وإنما نقطة القطع التاريخي كنهاية لمرحلة وبداية مرحلة جديدة، هي نقطة إغلاق الدائرة حينما يبدو في نهاية خمس مسائل استراتيجية، وكأن الحية رمز الحكمة قد أكملت الالتفاف حول نفسها، وهي التي تنفرد من بين الكائنات باستطاعتها تغيير جلدها، في دلالة رمزية في القدرة على التكيف الذي يتفوق على القوة كما لاحظ دارون.
وكتب ماوتسي تونغ ما اعتبر انجيل الثورة الصينية أي في الكتاب الأحمر عن ست مسائل استراتيجية، لكنه هو الذي قال للصينيين عند دعوته إلى المسيرة الكبرى إلى سور الصين العظيم عبارته الشهيرة: «إنكم لن تصبحوا عظماء حتى تصلوا أو تبلغوا سور الصين العظيم».
ولا يشبه السياج الإسرائيلي الحدودي مع غزة سور الصين العظيم، ولكن الفلسطينيين هم الذين يبلغون عظمتهم وبطولتهم مرة أُخرى كما فعلوا العام 1987. واذ يطرحون اليوم شعارهم الأول بعد النكبة عام 1948 «إننا عائدون»، الذي كان نشيد طابور الصباح الأول في الصفوف المدرسية الأولى. فان ما يجري الآن هو انهم القوا بورقة قوتهم الرابحة على الطاولة، كرامتهم الإنسانية وبطولتهم الذاتية والمجردة، ليحققوا ربما بعد سبعين عامًا، ما اسر به مرة ليفي أشكول رئيس حكومة إسرائيل في حرب حزيران 1967، عن الكابوس الذي يقلق نومه: «ماذا لو زحف او سار الفلسطينيون بصورة جماعية للعودة الى قراهم وبلدانهم التي هجروا منها؟». ومنذ أيام كان واضحًا ان هذا الكابوس الذي بدأ يتحقق، قد هز إسرائيل وأقلق راحتها وأنه بالفعل هزة استراتيجية.
صحيفة الأيام
جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي "شمس نيوز"