بقلم: عريب الرنتاوي
ما خاب مَن راهن على شعبه، فكيف إن كان هذا الشعب من طينة شعب فلسطين وعجينته اللتين جُبلتا على الثورات والانتفاضات المتعاقبة، وتصلبتا بمختلف أشكال المقاومة والصمود والثبات، ولأكثر من مائة عام في مواجهة الغزاة والمستعمرين.
لم يخيب شعب فلسطين ظن قيادته، ولم يخذلها يوماً، فكلما دعا الداعي أو صدح النفير، خفّ الفلسطينيون خفافًا وثقالًا، رجالًا ونساء، شيوخًا وأطفالًا، لتلبية النداء... حتى حين كنا نغرق في الإحباط والكآبة، كان الشعب الفلسطيني يسبق نخبه وطلائعه وقياداته، إلى اجتراح المعجزات، وابتداع أساليب الكفاح المبتكرة، وتأمين أسباب الصمود والثبات، في شتى الظروف وأقسى المحن.
ولطالما مدّ شعب الفلسطيني قياداته المتعاقبة بأطواق النجاة وحبالها، بديلًا عن أطواق العزلة التي كانت تشتد حولها، وحبال المشنقة التي كانت تلتف حول أعناقها ... ألا تذكرون كيف أعادت الانتفاضة الأولى منظمة التحرير من غياهب المنافي البعيدة إلى حضن الوطن ... ألا تستذكرون كيف انتصرت الانتفاضة الثانية لياسر عرفات، الذي كابد في كامب ديفيد ما كابد، من ضغوط الأعداء وتخاذل الأصدقاء وتواطؤ الأشقاء.
في كل مرحلة من مراحل النضال، كان جزء من الشعب الفلسطيني، يضطلع بالعبء الأكبر من المسؤولية ويدفع القسط الأوفر من فاتورة الدم، منذ انطلاقة الثورة المعاصرة والعمليات العابرة للحدود ومعركة الكرامة حين امتزجت الدماء الأردنية بالفلسطينية، مرورًا بلبنان ومرحلة العمليات الفدائية ومعارك المدفعية والصواريخ مع مستوطنات الشمال ... وصولًا إلى الضفة الغربية وعملية «السور الواقي»، وإعادة احتلالها كاملة من جديد ... في كل مرة، كان يتعين على جزء من الشعب الفلسطيني، أن يخوض حربه نيابة عن الكل الفلسطيني.
اليوم، تدفع غزة ضريبة الدم الفلسطيني، وتتصدر معركة استنقاذ القضية الوطنية للشعب الفلسطيني برمتها ... اليوم، تتولى غزة التصدي لمشروع ترامب و»صفعة العصر» و»البؤرة الاستيطانية الأميركية» الجديدة في القدس ... اليوم، ترفع غزة رايات فلسطين عاليةً، باسم الفلسطينيين جميعًا، ونيابة عنهم، مع أن الإنابة لا تجوز في لحظات الحقيقة والاستحقاق، كتلك التي تمر بها قضية فلسطين اليوم.
غزة التي كدنا نعلنها إقليمًا متمردًا، تتمرد على الضعف الفلسطيني في الضفة والشتات، وتثور على الاحتلال والاستيطان والحصار، وتنهي مرحلة التهميش والتغييب المديدة والمريرة، وتعيد وضع فلسطين في مكانتها التي تستحق ... غزة ساترة عوراتنا جميعًا، فلسطينيين وعربًا، مسلمين ومسيحيين.
غزة هذه، تعيد الروح إلى أرواحنا الذابلة ... وتمد بدماء نسائها وأطفالها العروق والشرايين العربية المتيبسة بالدماء الفوّارة، بعد أن شاخت الوجوه وفقدت دمها وماءها ... غزة هذه، تستنهض طائر الفينيق الفلسطيني، بعد أن ظن البعض، أنه بات رمادًا وأثرًا بعد عين ... غزة هذه، باتت تختصر كل الحكاية الفلسطينية.
لولا غزة وانتفاضة أهلها الباسلة، لما أمكن للقيادة الفلسطينية، أن تمتلك صوتها وجرأتها على مخاطبة العالم باللغة التي تحدثت بها ... لولا غزة، لما التفت العالم لما يدور في رام الله ... ولولا غزة، لما كانت لحماس مكانتها حتى في أوساط خصومها الذين ساهموا في عزلها وشيطنتها واستهدافها ... لولا غزة، لما تحرك فينا عرق ينبض بالأمل اليوم ... لولا الأرواح الطاهرة لستين شهيدًا وأنات آلاف الجرحى التي تشق عنان الفضاء، لما وقف العالم برمته، على قدم واحدة ... لولا غزة، لمر قرار ترامب بنقل السفارة مرور الكرام، ولصدقت نبوءة نيكي هيلي الشريرة التي قالت فيها أن الأرض لم تنطبق على السماء بعد قرار ترامب في السادس من ديسمبر الفائت ... لا يا سيدتي، السماء في غزة انطبقت على الأرض، والمسافة بينهما ملأتها سحب الدخان وقنابل الغازات السامة، أميركية الصنع، التي أمطرتها سلطات الاحتلال وجيشها فوق رؤوس النساء والأطفال.
غزة العزة، مجروحة في خاصرتها الضعيفة، وخاصرة غزة كما فلسطين كلها، إنما تتمثل في قيادات لم ترق إلى مستوى شعبها، ولم تلاق تضحياته الجسام، وفشلت في استلهام دروس تضحيته وفدائه ... وأخشى ما نخشاه، أن تضيع أطواق النجاة التي قدمتها غزة لجميع هذه القيادات، فتذهب تضحيات مئات الألوف من أبنائها هباء منثورًا.
صحيفة الأيام
جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي "شمس نيوز"