مقال مطول..بقلم الأسير/ حمزة يوسف الحاج محمد
حصلنا مؤخراً وبعد كثير من العناء ومعيقات السجن وقيوده على نسخة من رواية "أولاد الغيتو" للكاتب اللبناني الفلسطيني كما نحب وصفه إلياس خوري، ووجدنا معها إجابة على سؤال استطردنا في نقاشه كثيراً، لماذا سمينا كوارثنا القومية في العصر الحديث وواحدة من أفظع وأعنف جرائم التطهير العرقي والإبادة الجماعية بالنكبة؟ تلك المفردة التي تحيل الحدث "الطرد من فلسطين" إلى أصحابه المنكوبين ولا تشير حروفها إلى جذور الجريمة أو شخوص المجرمين؟
أدركنا مع "آدم دلو" أن الصهيونية نجحت في اجتراح جريمتين الأولى التطهير العرقي، والثانية إسكات الضحية، فنحن لم نفقد فلسطين عام 1948م إنما سُلبناها وسُلب معها صوتنا ومفردات لغتنا وكدنا نسلب بذلك ما عشناه دوماً وخبرناه، فلسطينيتنا وأدراكنا أيضاً. إن إرادة الكلام وكسر الصمت هي بحد ذاتها أكبر عملية مقاومة وإشارة حياة خبرها أبناء النكبة، لذلك لم تتجلى فلسطينية الفلسطيني إلا حينما نطق، فصار ونطق وكتب وغنى ورقص ورسم وناضل. بتنا ندرك أن الصمت موت بل أن الموت هو الصمت وأنه لغة المسلوبين، بل هو سلب اللغة وأن إرادة الكلام خلق وحياة.
تلك المقدمة هي تحية لذلك الكاتب الفلسطيني بالإرادة اللبناني بالقوة أو الفلبناني إن جازت لنا اللغة ذاك المجاز، وهي مقدمة إيذاناً بمشيئة البوح وإرادة الكلام في واحدة من أهم وأعظم وأجل تجارب الحركة الفلسطينية الأسيرة، إنها تجربة التعليم في السجون، تجربة جامعة القدس في سجن هداريم، وأنا أتحدث عن تجربة شخصية، حيث كما الكثير من الفلسطينيين استقبلنا الانتفاضة الثانية وفلسطين مشوارنا الأهم، وهمنا الأول ومثلت تلك الانتفاضة موعد التقائنا مع فلسطينيتنا الثائرة.
لقد كان أول أثمانها وأعظمها التضحية بالذات والحرمان والقهر والإذلال، خاصة أننا علمنا أن السجون لا تبحث عن أسر الأجساد وإن يتجسد ذلك في المظهر، إنها تبحث عن الروح، وتستهدف الذات، وهي تقيد الجسد لا لمنع حركته فنحن نتحرك قليلاً داخل الزنازين وفي مساحة السجن الصغيرة التي تقيد الذات بالجسد والجسد بالمكان وتغير المكان بما يحتويه من حركة الزمان فننتقل مع اعتقالنا إلى زمن دائري تكراري مفرغ لا جديد فيه، زمن الماضي الجاثم الثقيل يستقبلنا خزنة السجن وجلادوه لتعريتنا تماماً، يجردوننا من ثيابنا التي انتقيناها ولبسناها ممتلئين بالمساحة المتاحة لنا من حرية الاختيار تحت نير الاستعمار، يعرينا السجانون لندخل السجن ويدخلون إلينا مجردين من كل شيء سوى من الجسد والروح، يعطوننا ثيابهم المتشابهة القاتمة البالية والتي نختبر فيها أولى معاني الأسر وهي ثياب لم تُحك للستر وإنما للتعرية.
إنها محاولات السجانين البائسة لتجريدنا من ذاتنا، وهي ليست المحاولة الوحيدة، فالسجن كله محاولة للتعرية والتجريد والقهر والصهر والإذلال، وحينما تفقد خياراتك وقراراتك تسلب حريتك وتتكشف عارياً ويتحول كل شيء حولك إلى مرآة تكشف عريك حينها، تهرب من ذلك للاجتماع بذاتك تمدها بمقولات الإيمان والصبر، ترفع صوتك بالغناء، تنظر للسماء تغازل الشمس تحاول التفلت من كل نظام، تصالح ذاتك وتكتشف مبكراً أن الذات وعاء مكشوف إن لم تملأه بالنافع والمفيد والإيجابي ملأه الفراغ القاتل والإحباط.
وهكذا في إطار مقاومة الاعتقال والقهر والصهر تحاول أن تعرف، نقبل على امتلاك لغة السجان لنحمي أنفسنا من مفرداته وخطابه، نحاول إكمال الدراسة كل من حيث انقطع فهذا يتعلم الأبجدية إن لم يكن يعرف القراءة، نقرأ إن لم نكن نكثر المطالعة، ونحاول إتمام الدراسة لمن ابتدأ بها ثم انقطع، فأنا كنت طالباً في السنة الأولى في جامعة النجاح، وكثيرون مثلي كانوا على مقاعد الدراسة الثانوية أو عمالاً أو موظفين أو عاطلين عن العمل، وكان حلم أبي الذي قضى سنوات طويلة في السجن أن أتعلم كما فعل أخوتي وأشقائي، لكن السجان وأحكامه الجائرة حرمتني من إكمال الدراسة؛ لأن نداء الوطن في الانتفاضة الثانية كان أعلى وأكبر نداء.
غادرنا مقاعد الدراسة، وكل ترك ما يحب ويحلم به للالتحاق بها. وعند دخولنا السجن وحتى عام 2010م كان عشرات الأسرى قد تمكنوا من الالتحاق بالجامعة العبرية المفتوحة التي تم السماح للأسرى الفلسطينيين بالدراسة فيها بعد عام 1992م، وبعد نضال وكفاح طويل، ولكن كانت الدراسة فيها مقيدة بشروط تحول دون إتمامها بسبب مزاجية السجان وساديته، ولكن رغم ذلك كانت فرصة لم نكن نملك ترف رفضها إن حظينا بها، ثم جاء قرار رئيس حكومة الاحتلال نتنياهو عام 2010م بإيقافها وحظرها، ولم نتمكن من إكمال الدراسة فيها، ثم كانت محاولات من هنا وهناك لإقناع الجامعات الفلسطينية من أجل أن تمنحنا فرصة التعليم، وترافق مع ذلك القرار بمنع التعليم سلسلة إجراءات وقرارات عقابية منها قرار تقييد إدخال الكتب المحدود أصلاً والصحف وتقليص القنوات الفضائية، وبات السجان يعمل على صهر وتقييد وعي الأسير الفلسطيني ومحاصرته، ذلك الوعي المتمرد الذي يحاول التمرد على القيود والأصفاد؛ لكن ذلك القرار بالمنع وبشكل منعكس دفع الأسرى وقياداتهم إلى التفكير بحلول إبداعية لم تكن ليكتب لها النجاح لولا إقدام مؤسسات وطنية عريقة بوطنيتها وجغرافيتها وإدارتها على مد اليد لتلك الجهود، خاصة وأن المؤسسات الوطنية والأهلية والجامعات والنقابات لعبت دوراً أساسياً في الحفاظ على الوعي الوطني وتسييج الهوية في كل مرحلة احتاجت بها الفلسطينية لذلك إن تهددتها المخاطر وتراجعت بها تعبيراتها.
لذلك كانت الجامعات الفلسطينية تلعب ذات الدور الذي لعبته الجامعات العالمية العريقة في بناء وعي الأفراد وهوية المجتمعات باعتبارها وطنا مكثفاً. وقد مدت جامعة القدس للأسرى يدها بعد تلبيتها لنداء الأخ القائد الوطني المناضل مروان البرغوثي الذي طرح فكرة إتاحة المجال للأسرى لإتمام دراستهم وتسييج جهودهم بشهادة أكاديمية، ولم يكن ذلك ممكناً لولا شجاعة وحكمة البروفيسور د. سري نسيبة رئيس جامعة القدس وخليفته البروفيسور د. عماد أبو كشك الذي قدم وما زال دعماً كبيراً للمشروع ونوابه ومساعديه حيث ذللوا كل العقبات من أجل أن يرى هذا المشروع النور، وأن يتم وفق أعلى المعايير والقواعد والشروط الأكاديمية لتقديم تجربة فريدة وصفحة مشرقة في تاريخ التعليم الجامعي الفلسطيني، وهي تجربة منفردة تفتقر لها معظم الجامعات مع كل التقدير والاحترام لها خاصة بعد أن حذت القدس المفتوحة حذو جامعة القدس، وشرعت أبوابها للأسرى للدراسة حيث التحق المئات منهم بهذه الجامعة.
وفي إطار تجربتي الشخصية أقول إنني قد أمضيت أكثر من ست سنوات في سجن جلبوع (قرب بيسان) اعتمدت فيها على التثقيف الذاتي والدورات المحدودة خاصة في اللغة العبرية، وباشرت دراستي في الجامعة العبرية المفتوحة إلى أن أتى قرار منع التعليم.
وقد شكل انتقالي إلى سجن هداريم مرحلة جديدة في حياتي، خاصة أنه سجن مختلف من حيث نظام الغرف وطبيعة الأسرى وخلفياتهم، فهو السجن الوحيد الذي تمرد على الانقسام الفصائلي والتقسيم الجهوي السائد في كل السجون، حيث يقبع فيه حتى الآن أسرى من كل المشارب والانتماءات الجهوية والسياسية وهذا بفضل إصرار قيادات الأسرى وعلى رأسهم القائد المناضل د. مروان البرغوثي الذي يمارس نظريته في الوحدة الوطنية في كل مكان. وكنت قد انتظمت بداية لفترة قصيرة في مسار التاريخ عبر جامعة الأقصى التي وفرت فرصة للأسرى، ومع افتتاح مسار العلوم السياسية في جامعة القدس انتقلت إليه، ومثلت الدراسة فرصة التقاء نادرة اجتمع فيها الأسرى القدامى والجدد الشباب والشيوخ وأسماء كثيرة من أبرز كوادر وقيادات الانتفاضتين الأولى والثانية والذين التقيت بهم مدرسين وزملاء في ذات الوقت.
وقد شهد البرنامج الذي وفره القائد د. مروان البرغوثي كل جهده ووقته وسار وفق قواعد صارمة ومحاضرات منظمة بعدد مضاعف مما هو عليه في الجامعة، ووفق أسلوب متقدم ومنظور في التعليم ودراسة عشرات المساقات مثل مدخل إلى علم السياسة، نظريات في العلاقات الدولية، نظم سياسية مقارنة، جغرافيا سياسية، والفكر السياسي الحديث والمعاصر، والكثير من المساقات العلمية التي أسهمت في رفع منسوب الوعي والثقافة، وقد دخلت شخصياً مسار العلوم السياسية متحفظاً على مخاوف أهلي من طبيعة التخصص من جهة والتناقض الذي شدني من جهة أخرى بين رغبتي بالاطلاع والمعرفة وبين تحيزي لما كنت أعرف وأعتقد أنني أعرف وتموضعي على مسافة أو مسافات من كل غريب وآخر، لكنه أسلوب المحاضرين د. مروان البرغوثي ومجموعة من حملة الشهادات من الزملاء الأسرى، والنجاح في الجمع بين المرونة والإجراء والتشديد في المحتوى والمنهج وعبر الانحياز لفضاءات السؤال وروح النقد، كل ذلك ساهم في التجاوب مع التحدي، وكم كان تحدياً كبيراً أن تحاول إثبات ذلك في مناخ السجن وفي حلقة الدراسة المفتوحة والمتعددة وخاصة حلقة الدراسات العليا لدرجة الماجستير – دراسات إقليمية – مسار الدراسات الإسرائيلية وعلى وقع سيل الأسئلة القلقة الناقدة. لكن السؤال صار جسراً يقصر المسافات بين الذوات حتى انفتحت بتسامح وتصالح مع تعدد وثراء الاختلاف، وكم كان صعباً بداية أن نسمع الآخر وكان أكثر صعوبة أن نقبل نقدهم ونتفهم اختلافهم، وكم كان جميلاً أن نتعرف نهاية إلى هذا التنوع ونستطيع إدراك أهميته كمكمن قوة وكقيمة بحد ذاتها.
لم تكن الدراسة مرهونة أو مشروطة بأي تسهيل أو تيسير من قبل السجانين، بل إنهم على العكس من ذلك لم يدخروا جهداً للإعاقة والتعطيل لكن إرادة الاستمرار والحرية غلبت كل محاولات سلب الإرادة.
وقد تزامن موعد تخرج دفعتنا مع نقلي من السجن الذي كنت سابقاً فيه وقد أبلغني د. مروان بموعد التخرج، وكنت في عزلة عن الأهل وغربتي عن الإنجاز، وفي لحظة عاد السجن إليّ فيها بمعناه المجرد أسر في المكان وعزل في حركة الزمان. وتخيلت أمامي وأنا في زنزانتي وأمي أمامي وهي تغني قصة التتويج لتستلم شهادة ابنها الأسير خريجاً يُتلى اسمه من أسماء مئات الخريجين الأحرار. حينها أدركت أنه لا معنى للجسد المقيد والمعزول ما دامت الذات تستطيع الارتقاء فوق أحكام الفيزياء والسياسة، متجاوزة فارق القوة والتكوين بين أثير الروح وبطش الحديد، لتحلق في سماء القدس حرة مع الأحرار، وكم هو مخطئ من يعتقد أن الحرية مقولة حق أو هبة الزمان، إنها بالفعل رهن اختياري وابنة الإرادة والقرار، وتذكرت ساعة ذلك اليوم قصة قرأتها قديماً يوصي فيها الملك المشرف على الموت بابنته بالمُلك شريطة إدخالها الشمس للقصر. حارت الأميرة وحاولت واجتهدت حتى أدركت أن الشمس شعاع وأن بإمكان المرايا إدخالها فتنعكس على القصر نوراً وضياءً. ليس السجن قصراً لكن المعرفة نور والذات مرآة وبإمكاننا بالوعي والإرادة جعلها انعكاس النور والفضاء.
وقد وفرت لنا تجربة مواجهة السجن بالجامعة في قبور الأحياء فرصة النظرة الارتدادية للوراء لا كما يفعل اليائسون هروباً من الواقع، أو تألماً على المضي، وإنما هي نظرة للتأمل ووقفة للتفكير وفرصة لإعادة البناء.
سمحت لي هذه الفرصة أن ندرك أنه بإمكان الإرادة الحرة والمسؤولية الوطنية والانتماء لقلق السؤال أن يحيل السجن إلى جامعة، والمعتقل إلى أكاديمية، والقيد المدمر إلى التزام وانتظام خلاق، والزمن الدائر الميت إلى زمن حيوي متصاعد.
لقد استطاعت بذلك جامعة القدس، تلك المدرسة الوطنية والجامعة العضوية أن تجعل من اجتماع الفلسطينيين المأسورين في مساحات المعتقلات جامعة، ومن قيدهم ومن صمتهم لغة ونقاط حروفها فلسطين. لقد عادت إلينا فلسطينيتنا من جديد على طريق عودتنا القريبة إلى فلسطين، وهنا تعرفنا من خلال الحلقة الدراسية للدراسات العليا على مشروع محمد عابد الجابري ومشروعه النقدي وناقشنا كتبه وموضاعاته عبر مئات المحاضرات إلى جانب إدوارد سعيد والاستشراق والثقافة والإمبريالية وصدام الحضارات وهشام شرابي ومشروع النظام الأبوي والعلمانية والديمقراطية وكذلك الصهيونية فكراً وممارسة وموضوعات المجتمع الإسرائيلي والنظام السياسي وموضوعات الدين والدولة والديموغرافيا في المشروع الصهيوني وتجربة المفاوضات العربية – الإسرائيلية من عام 1948م حتى الآن، وعشرات الموضوعات والمساقات الأخرى.
لقد جعلتنا جامعة القدس باعتراف القائد د. مروان البرغوثي نولد من جديد بوعي وثقافة جديدة حتى عودتنا إلى فلسطين قريباً.