بقلم/ ليث شحادة
اعتادت غزة بشغف على وجبة خفيفة دسمة تقدمها قطر ويوصلها مندوبها العمادي بمركبته "VIP"، القاطعة شوارع إسرائيل والمارة على مكتب الرئيس برام الله أحيانًا، والمستقرة في قطاع غزة كل أيام معدودة لا تتعدى الشهرين أو أقل أو أكثر قليلاً حسب سخونة الوضع الميداني بغزة وتصاعد الضغط الشعبي والعسكري من قبل حماس ورفيقاتها من الفصائل الأخرى تجاه الطرف الإسرائيلي، أو حال نشبت مناوشات حدودية هنا أو هناك. زيارات العمادي الدؤوبة ليست غريبة أو ملفتة للأنظار، فالجميع بداخل غزة وخارجها يشعر بوجودها وتحركاتها ووجبات قطر التي لي معها حكاية!
كما هو معروف أن الوجبة الدسمة لا تصنف بأنها خفيفة بالعادة في عالم الأطعمة، لكن الزمان فرض أن تكون مكوناتها دسمة وأهم مكون فيها، الدولار العملة الدسمة عالميًا، وخفيفة الهضم بنفس الوقت. بالعودة إلى وجبة قطر المجهزة لغزة الغاضبة من ابتزازات الاحتلال والخجولة من تفاهمات التهدئة. نجد أن مكوناتها، حليف استراتيجي وصديق ذو مرجعية إخوانية وسيد دولة عظمى مع التوابل الحريفة والورطات اللطيفة. لحظتها غزة ستأكل أصابعها ليس لذة لما أكلته من سنوات، بل ندمًا وستندم أكثر إذا قبلت بمثل هذه الوجبات، وتفقد شهية الكرامة والحياة إلى الأبد.
فالإسرائيلي يتذوق من الوجبة بلسان المعلم قبل أن تأتي إلى غزة، بعقلية احتلالية ومحاصرة ومعاقبة، يشرك فيها قطر بمحض إرادتها بلعبة التفاهمات التي لا زالت تمارس دورًا غامضًا بملف غزة والبعض يصفه بالمشبوه لوقوعها رهن إشارة الإسرائيليين والأمريكيين في الملف الفلسطيني، والواقع يقول إن تدخلات قطر، الدولة الصغيرة جغرافياً والهامة والمؤثرة في فرض نفسها بقوة على الساحة في غزة، مثيرة للاستغراب ويحوم حولها أسئلة كثيرة وثقيلة، لا يقدر على إجاباتها أناس عاديون، بينما يبدع آخرون في كيل الإجابات الوفيرة كأنهم في أدمغة الساسة القطريين.
لم أنسَ بعد همسة" نبغي هدوء" التي خرجت من فم العمادي حين قام بزيارة استكشافية على حدود غزة الشرقية واستقرت في أذن القيادي بحماس خليل الحية بهدوء، قابله رد متقطع من الأخير وملامح الحرج والخجل تكسو وجهه، فهذه الهمسة الفاضحة والواضحة للعيان والسامعين والمراقبين والمتابعين والمزاودين والمحبين والكارهين والمطبلين والمسحجين والمهاجمين، أثارت حفيظة الكثير من الناس، وضجت كافة مواقع التواصل الاجتماعي والقنوات والمواقع العربية المعادية لقطر وخاصةً الإعلام السعودي والإماراتي بالفيديو الذي وثق الهمسة، وجعلنا نظن أن المسيرات الحدودية التي انطلقت بشهر مارس من العام الماضي، هدفها كسر الحصار واستقطاب الدولار القطري وليس عملاً وطنيًا ونضاليًا يعيد إحياء القضية الفلسطينية والمشروع الوطني من جديد. لكن حماس في كل تصريحات قادتها وفي بيانات ناطقيها، تثمن دور صديقتها قطر في غزة وتدافع عن العمادي بسبب تصريحاته الجافة في الشأن الفلسطيني الداخلي والمشبوهة أيضًا في الملف السياسي العام، كما أنها ترفض المقايضة على المسيرات الحدودية، وتؤكد استمرارها حتى تحقيق أهدافها المرجوة، بينما "فتح" تصر أن المسيرات أصبحت تستخدم كنوع من المقايضة على التفاهمات التي تتم بشكل غير مباشر بين حماس وإسرائيل عن طريق وسطاء. والأهم من ذلك أنها منزعجة من وجود قطر في غزة. لاعتبار أنها تعزز الانفصال بين غزة والضفة تماشيًا مع مشروع نتنياهو الحالي في ظل حالة الانقسام بين فتح وحماس.
وصديق معروف بميوله لحماس، كتب ذات يوم على موقع "فيسبوك": كل ما تقرب تولع، ببعتوا العمادي وبعدين؟!!، لأرد عليه قائلاً:" أحسنت فهمًا. وانهالت بعدها التعليقات لتعبر جميعها عن حالة من السخط جراء تحركات العمادي المشبوهة في غزة بعد كل جولة تصعيدية إسرائيلية خاطفة.
من حسن حظ مقالتي هذه، أن قناة "الجزيرة" باللغة الإنجليزية نشرت اليوم عبر موقعها الإلكتروني حوارًا صريحًا للعمادي الذي قال فيه إن غزة هي مكان يحاول فيه الإسرائيليون والمصريون والسلطة الفلسطينية وحماس والفصائل الفلسطينية الأخرى تقويض بعضهم البعض من أجل الحصول على الحكم، معبرًا عن صداقة بلاده بالإسرائيليين والذي وصفها بـ المميزة. وهذا يوضح جلياً أن العلاقة بين قطر وإسرائيل فوق الريح وعلى عكس النشرات الإخبارية والبرامج السياسية التي تبثها قناة "الجزيرة" عن التطبيع وخيانة السعودية والإمارات للقضية الفلسطينية، لا سيما أن "الجزيرة" تتهم الدولتين الخليجيتين صباحًا ومساءً بفتح قنوات اتصال سرية مع الإسرائيليين.
ونيران العمادي أصابت مرة أخرى "مصر" بنظامها الحالي المعادي لقطر. وزج "حماس" معها في مسألة توضح مدى استفادتهما المالية من غزة، فقد قال إن مصر وحماس تستفيدان ماليًا من البضائع التي تدخل إلى قطاع غزة عبر معبر رفح البري، مدعيًا أن المخابرات المصرية تحصل على 15 مليون دولار منها، كعمولة، وحماس تحصل على 12 مليون أخرى من الضرائب المفروضة عليها، والباقي هو القيمة الفعلية لتلك البضائع.
وكتبت مقدمة لأبدأ بها مادتي الصحفية قبل أشهر، أن غزة تعيش حالة بائسة على الدوام، وهي تنتظر بشغف كل مرة، قدوم السفير القطري محمد العمادي إليها، حاملاً معه "الدولار الأمريكي" المعروف عامياً لدى الفلسطينيين بـ "الأخضر"، لسكانها الذين صنفت نصفهم الإحصاءات الأخيرة، على أنهم "فقراء".
لأربط هذه المقدمة بوصف مزعج وغاضب للبعض، أن هذه الحالة التي قد تتحول وتصبح "مذلة"، بمجرد قراءة خبر يخُص العمادي ومنحة بلاده المالية في الإعلام. وهنا أقصد الإعلام الإسرائيلي الذي يملك المعلومة الحصرية دائماً فيما يتعلق بطبيعة جدول أعمال العمادي في غزة. فهو الوحيد القادر على الإجابة في رحاب سؤالين يترددان في ذهن أي فلسطيني مصنف في كشوفات "العائلات الفقيرة والمستورة"، وهما: متى يصل العمادي إلى غزة؟، وما مصير المنحة القطرية؟
وأكملت الكتابة يومها، أن في لحظة وصول العمادي إلى غزة قادمًا من إسرائيل يلتقط صورًا مع قادة حماس والابتسامات العريضة من كلا الطرفين تملأ المكان، تتحول بعض الصفحات على موقع فيسبوك إلى ترمومتر، لتقيس حرارة أجساد أرباب الأسر الفقيرة، ليجد كل من اقترب من أجسادهم أنها مرتفعة بجنون، بسبب مرض كشف مؤخرًا وهو "100 دولار". فحرارة أجسادهم قادتهم بسرعة البرق إلى مكاتب البريد المخصصة لصرف المنحة المالية، على أمل أن يلامسوا ورقة "100 دولار" ويشموا رائحتها "القطرية والإسرائيلية"، بالرغم أن رائحتها الأصلية أمريكية.
لا إنكار، بأن لقطر دوراً نشطاً في قطاع غزة منذ سنوات، فقد نفذت العديد من المشاريع الإنسانية والخدماتية بتكلفة ملايين الدولارات، في المقابل ترى القيادة الفلسطينية أن أي دعم يُخصص لغزة، بدون وجود السلطة الفلسطينية، يعزز الانقسام ويؤدي إلى انفصال ما بين الضفة وغزة. وبتقديري أن قطر لديها أهداف غير مفهومة ومرتبطة بمركبات النقص السياسي، لا تعمل بإرادتها المستقلة في غزة، وهناك طرف مخفي يساعدها ويستغل إمكانياتها وثرواتها، مع رغبة ذاتية أن يكون لها اسمٌ قويٌ ومؤثرٌ في الشرق الأوسط، مرتبطٌ بأجندات خاصة، وهناك أصوات كثيرة خرجت لتقول وتؤكد بما لا جدل فيه، أن الحقيقة واضحة ولخصتها في هذه الفقرة، كما أن أميرها الوالد الشيخ حمد آل ثاني الذي زار غزة عام 2012 وسط استقبال رسمي من هنية وقادة حماس، كشف ملامح ورغبة وتوجيهات قطر الإخوانية.
هذا جعلني أعود إلى الوراء لأكثر من عشر سنوات وأقتبس جزءًا من كتاب قرأته للأمين العام للجامعة العربية ووزير خارجية مصر الأسبق أحمد أبو الغيط، الذي قال فيه إن قطر زاحمت مصر، أيام العدوان الإسرائيلي عام 2008-2009، وأرادت أن تتدخل وتتصرف بانفراد وتعقد قمة عربية طارئة وقتها دون التشاور مع أحد، فيما أشار إلى حالة من الصراع في غزة بين قطر وتركيا من جهة ومصر من جهة ثانية.
والخلاصة، أن غزة التي قدمت مئات الشهداء وآلاف الجرحى منذ إشعال مسيرات العودة وتحملت أربع حروب طاحنة شنتها إسرائيل عليها ولا زالت تعيش ويلات الحصار الإسرائيلي والانقسام الفلسطيني-الفلسطيني، لا ينفع معها وجبات أو مسكنات أو وعودات أو تفاهمات أو مفاوضات أو قطريات أو مصريات أو أُمميات. ومن الصعب التخمين أنها ستكفر بهذه النماذج الحالية وتفضها من حولها، لسبب أن حاكمها وواقعها حتما عليها أن تبقى بهذه الحالة وأن تبقى ملعبًا مفضلاً للأطراف.