بقلم/ د. وليد القططي
الخيبة في اللغة العربية هي الخُسران، والإخفاق، وعدم تحقق الأمل والرجاء. ومن مرادفاتها: الفشل، والهزيمة، والاستسلام، والعجز، والانكسار، والإحباط، واليأس. وقد وردت في القرآن الكريم بمعنى خسر وهلك بقوله تعالى: "وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ"، وفي الحديث الشريف جاءت بنفس المعنى بقوله عليه الصلاة والسلام: " خاب وخسر من أدرك رمضان ولم يُغفر له". واستخدمها الشاعر المتبني بقوله: " والأمرُ للهِ رُبَّ مجتهد... ما خابَ إلاّ لأنَهُ جاهد". وفي علم النفس تُعبّر عن حالة عاطفية سلبية ناتجة عن انهيار الآمال والأحلام والتوقعات والأهداف وعدم تحققها، وهي تجربة قاسية بمزيج من عواطف الحزن والألم والغضب والاستياء واليأس، تؤدي إلى خيبة الأمل على المستوى الشخصي، أما على المستوى القومي فتصيبُ الأمم والشعوب التي فقدتْ حُلُمها، وضاعتْ آمالُها، وخسرتْ رسالتها، وضلت طريقها، وانحرفتْ بوصلتُها. وكل المعاني السابقة تنطبق على العرب الذين أصابتهم الخيبة الكُبرى عندما فشلوا في تحقيق وحدتهم ونهضتهم وتقدمهم، ونجحوا في مواصلة طريق الاستبداد والفساد والتبعية والتخلف. كما تنطبق خيبة الأمل علينا – نحن الفلسطينيين – عندما فشلنا في مغادرة محطتي أوسلو والانقسام، ونجحنا في مواصلة طريق التيه والصراخ والعويل والمناكفات والمناطحات. وهذه الحقيقة-عربياً وفلسطينياً-المُعبّرة عن خيبتنا مدعاة للبحث عن أسبابها للخروج من هوائها العفن الفاسد؛ لنتنفس هواءً نقياً صالحاً، ولنتنسّم عبيراً برائحة العزةِ والكرامة، ولنستنشق شذا النصر والظفر. ولقد ناقش كل ذلك الفنان المصري محمد صبحي في مسرحية (خيبتنا).
خيبتنا، مسرحية كوميدية للفنان الأديب محمد صبحي، مؤلف ومُخرج ومُنتج وبطل المسرحية، يُقدم من خلالها رسالة ثقافية، وفكرة فلسفية، ومُتعة فنية، تدور أحداثها حول عالمِ اسمه الدكتور (يائس)، تتعرّض مسرحية (خيبتنا) لتجربة الهندسة الوراثية، بسعي الدول المتقدمة علمياً للسيطرة على باقي الشعوب، بالوصول إلى جينات تؤثر في طريقة تفكيرها، ويتم إطلاق مواد كيميائية بالخطأ تحمل جينات العرب في أمريكا، فيتحوّل حكامها إلى قادة على الطريقة العربية، ويتم ذلك في قالب كوميدي يتبع لمدرسة محمد صبحي المعتمدة على كوميديا الموقف البعيدة عن الابتذال والاسفاف. وقد تحدث محمد صبحي عن جوهر رسالة المسرحية، فقال: "إن الكوميديا في الخيال أو الواقع واحدة، وهي تطرح سؤال مهم، هل عندما تنظر إلى المرآة وترى نفسك مشوّهاً، هل ترى العيب في المرآه فتكسرها؟، أم ترى الأصوب أن تُبادر بإصلاح نفسك؟". والمسرحية لا تُنكر نظرية المؤامرة الخارجية على الأمة ولكنها تُظهر حقيقة المشكلة النابعة من داخلنا وأنفسنا، وهذه هي الخيبة الكبرى، فخيبتنا من صنع أيدينا، ونتاج أفكارنا، وأخطاء عقولنا، وأمراض قلوبنا، والخيبة الكبرى أننا حطمنا أوطاننا بأيدينا وقدمنا لعدونا أكثر مما يتمناه لسحقنا في إشارة إلى ما فعلناه بأنفسنا، وفي إشارة إلى الجمود الفكري والاستبداد السياسي كأهم أسباب خيبة العرب يقول في المشهد الأخير من المسرحية "إنَّ الأمة سقطت لمّا عقولها شاخت وبهتت ولمّا قهرت شعوبها". والمسرحية لا تُشخّص المشكلة فقط؛ بل تضع الحلول لها، فالخروج من واقع الخيبة والعجز والهزيمة إلى واقع الفلاح والاستطاعة والنصر، يحتاج إلى العودة إلى الخلل في نفوسنا، والبدء من الذات، واستعادة ثقتنا بأنفسنا وتاريخنا وتراثنا وقيمنا، والاستفادة من تجارب الآخرين دون التخلّي عن هويتنا، فتغيير ما في النفس هو البداية لتغيير ما في الواقع ومغادرة خيبتنا.
رسالة المسرحية هي نفس فكرة كتاب صدر في سبعينات القرن العشرين للمفكر السوري جودت سعيد الذي ينتمي لمدرسة الفيلسوف الجزائري مالك بن نبي الفكرية، والكتاب بحث في سُنن تغيير ما في النفس والمجتمع، ويدور حول تفسير آية التغيير في سورة الرعد " إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ " وكذلك الآية في سورة الأنفال " ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ"، فيستخلص منهما أهم قانون لتغيير الانسان وواقعه، ومختصره أن تغيير واقع البشر كأمم وشعوب ومجتمعات وجماعات وأفراد لا يتم ولا يحدث إلاّ بتغيير ما في أنفسهم من أفكار ومعتقدات وأوهام ومشاعر، لتغيير سلوكهم فيتغير واقعهم، فتغيير الناس ما بأنفسهم أولاً يجب أن يحدث، ثم يتبعه تغيير الله تعالى لما في القوم ثانياً. فالمشكلة داخل العرب والمسلمين من أنفسهم وما صنعته أيديهم. وهذا يتفق مع ما كتبه صاحب الظلال الشهيد سيد قطب في شرحه لمعنى آية التغيير وهو "إنَّ اللهَ لا يغيرُ نعمةً أو بؤساً، ولا يغيرُ عزاً ولا ذلةً، ولا يغيرُ مكانة أو مهانةً... إلا أن يغيرُ الناس مشاعرهم وأعمالهم وواقع حياتهم، فيغيرُ اللهُ ما بهم وفق ما صارت إليه نفوسهم وأعمالهم... إنَّ مشيئة اللهِ بالبشر تترتب على تصرف هؤلاء البشر". انتهى كلام صاحب الظلال، ولذلك عندما تساءل المسلمون متعجبين عن سبب هزيمتهم في معركة اُحد وفيهم رسول الله-صلى الله عليه وسلم-ردهم الله تعالى إلى أنفسهم ليبحثوا عن الخلل داخلهم "... قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ" ، ولتصحيح منهج التفكير عند المسلمين على تعاقب أجيالهم ثبتها كقانون لا يُحابي أحداً من العالمين بقوله تعالى "وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ".
المنطق القرآني يطرح مبدأ التغيير الذاتي في مساره الايجابي نحو الصعود والتقدم والانتصار، وفي مساره السلبي نحو الهبوط والتأخر والهزيمة، فيمنح الإرادة الانسانية القادرة على استعادة توجيه مسار حياته الشخصية والجماعية. هذا المنطق القرآني الذي استنبط منه جودت سعيد سُنّة التغيير التي تبدأ بتغيير ما في النفس، واستخلص منه محمد صبحي قانون الخروج من الخيبة الذي يبدأ بإصلاح الذات الفردية والجمعية، وهذا المنطق هو ما نحتاجه اليوم لمغادرة خيبتنا العربية وخيبتنا الفلسطينية، نحتاج إلى رسالة المسرحية، وفكرة الكتاب، ومن قبلهما قانون التغيير في القرآن الكريم، للخروج من واقع الخيبة كي لا نغرق في حلها ونغوص في طينها، ولإصلاح ذاتنا كي لا نواصل جلدها والإمعان في تدميرها، ولاستعادة ثقتنا بأنفسنا كي لا نستمر في فقدانها وصولاً إلى تحطيمها، ولذلك نحتاج إلى قراءة واعية لتاريخنا، وليس للبكاء على إطلاله أو الغناء على أمجاده، ونحتاج إلى تشخيص دقيق لحاضرنا وليس لرثاء حالنا أو التغني بانتصاراته الوهمية، ونحتاج إلى استشراف علمي للمستقبل وليس لنسج خيوط أوهام الأماني الحالمة أو تقويض ما تبقى من أحلام تحتضن آمال الأمة بغدٍ أفضل. نحتاج إلى الخروج من خيبتنا العربية بمغادرة واقع الاستبداد والفساد، والتبعية والاتكالية، والتفرقة والتشرذم، والضعف والعجز، والتطرف والتعصب، والفقر والحرمان... ونحتاج إلى الخروج من خيبتنا الفلسطينية بالرحيل عن محطة اُوسلو والانقسام والعشوائية والضجيج وردات الفعل، لنصل إلى محطة الوحدة الوطنية والتخطيط الوطني لنستطيع مواجهة واقع الاحتلال والحصار، والتشرد واللجوء، والاستيطان والتهويد، ليصل قطار الشعب الفلسطيني إلى محطته الأخيرة، محطة التحرير والعودة والاستقلال.
خيبتنا ليست قدراً محتوماً، وليست أمراً مقضياً، وهي بالتأكيد ليست مصيراً قهرياً، وليست مستقبلاً جبرياً؛ بل الخروج من خيبتنا هو القدر المحتوم، والأمر المقضي للأمة العربية والشعب الفلسطيني، وهو مصيرها الجميل ومستقبلها المشرق إذا ما أخذت بسُنن التغيير والتقدم والنصر القرآنية، وإذا ما استفدنا من تجارب الأمم والشعوب التي عرفت تلك السُنن، واكتشفت قوانين النهضة والتقدم، فعملت بها وصنعت أمجادها بأيدي أبنائها وبناتها، وحررت أراضي أوطانها بسواعد ثوارها وثائراتها، وانطلقت من أساس عقيدتها وثقافتها وهويتها، ولم تركن إلى الذين ظلموا من أعدائها، ولم تلهث وراء وهم السلام مع جلادها، ولم تهرول للارتماء بين مخالب مفترسيها... وقبل كل ذلك وبعده حافظت على حلمها من خيبتها، ولم تسمح لوحش الخيبة أن يبتلع أمل الحلم، ولذلك قال شاعرنا الفلسطيني الكبير محمود درويش "ولنا في أحلامنا الصُغرى.. كأن نصحو من النوم مُعافين من الخيبة.. لم نحلمْ بأشياءٍ عصية.. نحن أحياءُ وباقون.. وللحُلمِ بقية".