بقلم/ ليث شحادة
حديث متنوع وجَّهه الرئيس الفلسطيني محمود عباس صوب أعضاء أقاليم حركة فتح المنتخبين بمقر المقاطعة برام الله، مساء الأحد الماضي بتاريخ 1/ مارس/2020، جعلتني أتوقف عند جزء منه، لم يركز عنده البعض.
إن جزءًا كبيرًا من الحديث كان ممزوجًا بأسلوب إنشائي ومكرر كالعادة، والجزء الآخر والأهم قد كشفه الرئيس الذي صوّر نفسه على أنه "زعيم فكرة التواصل مع الإسرائيليين" في منتصف السبعينات من القرن الماضي، لنعيش معه حلقة جديدة من برنامج "الذاكرة السياسية"، كونه في آن واحد، المحاور والمجيب.
وما كشف ليس من فراغ، بل أتى بمناسبة الرد على الهجوم الواسع الذي شن مؤخرًا على لجنة التواصل الفلسطينية مع المجتمع الإسرائيلي ورئيسها القيادي بفتح محمد المدني، إذ شكلت اللجنة بقرار من الرئيس عام 2012.
واندلع الهجوم العنيف على المدني تحديدًا، عقب لقاء نظمته اللجنة في تل أبيب، في 14 فبراير/ شباط الماضي، بمشاركة وزراء فلسطينيين سابقين، وأعضاء بلديات بالضفة الغربية، وممثلين عن أحزاب إسرائيلية وأعضاء بالكنيست، ووزراء إسرائيليين سابقين، كما نظمت اجتماعًا آخر في رام الله، شارك فيه صحفيون ونشطاء إسرائيليون، للحوار مع القيادة الفلسطينية حول حل الدولتين وتحقيق السلام!
والمدني قدم استقالته من رئاسة اللجنة التابعة لمنظمة التحرير الفلسطينية، للرئيس عباس، بعد تعرضه لهجوم من قيادات حركة "فتح" واتهامه بتشجيع تطبيع العلاقات مع "إسرائيل".
وبعد وقت قصير، رفض الرئيس الاستقالة، إعجابًا بالدور الذي يقوم به المدني والذي وصفه بأنه عمل وطني مع إقراره ببعض الصعوبات والمشاكل، علمًا أن اللجنة لا تتوقف عن إثارة الجدل بتاتًا في أوساط الفلسطينيين، فمنهم من يرفض نشاطها ويهاجمها بشدة ويخون من أعضائها، فيما يرى آخرون أن اللجنة:" جزء من المنظومة الفدائية التي تهدف إلى حشد الرأي العام في إسرائيل لدعم خيار حل الدولتين وتحقيق السلام".
وبقوة دافع عباس عن المدني، قائلاً:" إن عمله ليس فيه رفاهية ومتعة، لكنه واجب لكي يتحدث مع الإسرائيليين من أجل قضية السلام".
" عليك أن تذهب للطرف الآخر لتحدثه في بيته وتقنعه بأنك تريد السلام"
إنها الفكرة الراسخة في ذهن صاحبها من السبعينات وحتى 2020، لتصطدم بسؤالين واقعيين: ماذا حققت الفكرة، وهل يمكن لها أن تخترق مجتمع يدعم جسم اليمين المتطرف الذي يبدع في سرقة الأرض الفلسطينية ويتلذذ على قتل وأسر وذبح الفلسطيني ولا يعترف بوجود دولة فلسطينية على حدود "67"؟
والرئيس أفصح عن أن الفكرة بدأت تراوده في سنة 1973، لاعتبار وقتها أن الفلسطيني يجب أن يعرف إمكانيات من يحارب عبر الحديث معه، وقال حرفيًا:" هناك في إسرائيل المنيح والعاطل، وهناك من يريد السلام وآخر يرفضه، هذا مجتمع فسيفسائي ويجب أن نتكلم معه".
ولإنعاش الذاكرة، عقد المجلس الوطني الفلسطيني دورته الثالثة عشرة في القاهرة بتاريخ 12/22 آذار (مارس) 1977، وفق مركز المعلومات الوطني الفلسطيني.
وبدأ الرئيس يسرد: في اليوم العاشر من عقد المجلس الوطني، سأل المتحدثون: أين هم العملاء الذين تحدثوا مع الصهاينة؟، ثم قررت أن أتكلم عن فكرة الحوار مع الإسرائيليين، بالرغم من معارضة بعض الأصدقاء والأحبة الذين كانوا في القاعة خوفًا من شتمي".
وبعد مرور أربعة أعوام على تلك السنة وتحديدًا في سنة 1977، لفت عباس إلى أنه كلف عصام السرطاوي الذي كان يشغل وقتها قيادة الهيئة العاملة لتحرير فلسطين، مسألة الحوار.
ومضى بالقول:" كان وقتها يتعرض لهجوم من القيادات الفلسطينية، وكانوا يخشون أن يشتموني لصفتي عضوًا في اللجنة المركزية".
وبالعودة لتفاصيل اجتماع المجلس الوطني آنذاك، قال عباس:" تحدثتُ أمامهم لمدة 45 دقيقة، وركزتُ على أشياء كانوا "طلاسم" فيها، لأنهم لم يسمعونها قبل ذلك"، على حد تعبيره.
ووفق شهادة البالغ من العمر أكثر من ثمانية عقود، فإن الحضور وقتها صفقوا له بحرارة على ما شرحه لهم حول تركيبة "إسرائيل"، ثم اتخذوا قرارًا ببدء اللقاءات مع الإسرائيليين.
واللافت مما كتب، أن عباس كان متابعًا للشتائم التي انهالت على مسؤولي لجنة التواصل على المنصات الاجتماعية، وأبدى انزعاجه منها، مشددًا على أنه" لا يجوز للشخص استعمال أداة لشتم الآخرين، سواء معه الحق أو ليس معه، هذا هو الواقع".
وفي نهاية حديثه برام الله، أشار إلى أنه أوصى الحكومة في رام الله بمتابعة من شتم رئيس اللجنة وأعضائها، وقال متوعدًا:" كل من افترى على الناس بأي موضوع يجب أن يذهب إلى القضاء".
وبالجدير ذكره، أنه في 30 تشرين الأول/ أكتوبر 2018، قرر المجلس المركزي، التابع لمنظمة التحرير، تعليق الاعتراف بدولة إسرائيل، لحين اعتراف الأخيرة بدولة فلسطين على حدود 1967 وعاصمتها القدس الشرقية.
وكذلك، قرر المجلس وقتها، وقف التنسيق الأمني مع إسرائيل، ووقف العلاقات الاقتصادية معها، غير أن هذه القرارات لم تدخل حيّز التنفيذ، ولجنة التواصل مستمرة بالعمل بروح وإصرار الرئيس على أرضية تالفة لا حصد فيها.. وفكرته الخائبة عائشة لـ 2020 ولا تموت، يا لها من غرابة !!