بقلم/ أ. محمد حميد
يقع مخيم جنين في المنطقة الغربية من محافظة جنين إحدى المحافظات الشمالية للضفة الغربية المحتلة، ويحتل مساحة تقارب نصف كيلومتر مربع ويتصل المخيم بسهل مرج ابن عامر، وتسكنه عائلاتٌ فلسطينية هجرت من مدينة حيفا وقضائها وقرى جبل الكرمل شمالي فلسطين نتيجة الاعتداءات المتكررة من قبل العصابات الصهيونية التي أدت إلى تهجير عددٍ من العائلات الفلسطينية إلى المنافي والشتات في الأردن وسوريا ولبنان وباقي مناطق الشتات الفلسطيني.
تمتاز الطبيعة الجغرافية لمحافظة جنين ومخيمها بالأراضي السهلية التي تلائم زراعة الخضروات حيث تعتبر المحافظة من أهم مزودي الخضروات لمحافظات الضفة الأخرى، وللطبيعة البرية جمالها في جنين، حيث يطلعني أحد الأصدقاء من المخيم عبر وسائل التواصل الاجتماعي على رحلات الصيد الربيعية للأرانب والغزلان البرية وكذلك أجمل الطيور التي تعكس حجم الجمال الطبيعي لفلسطين المحتلة الأرض التي باركها الله –سبحانه وتعالى- وشرفها بمعراج النبي –صلى الله عليه وآله وسلم- وجعلها مهبط رسالات عددٍ من أولي العزم من الرسل.
قصة محافظة جنين شأنها شأن باقي محافظات الضفة الغربية والقدس تعرفت على د. فتحي الشقاقي الشاهد والشهيد في رحلة عمله في مستشفى المطلع في القدس غرة ثمانينات القرن الماضي وازدادت تألقاً وتعلقاً بفكرة الجهاد الإسلامي بموجات الطلبة الجامعيين المتشربين لفكر الشقاقي في جامعات الضفة الغربية كبيرزيت والنجاح والخليل، حيث كان لجنين القسام ولمخيمها ولقراها النواة الأولى للحركة وتجذرت هذه النواة لتكون أصلاً ثابتاً فرعه في السماء بالمبعدين إلى مرج الزهور جنوبي لبنان من أبناء الحركة في الضفة وغزة عام 1992م، حيث التقى القائد الأمين/ د.فتحي الشقاقي ببعضٍ من هذه الثلة المؤمنة من أبناء الضفة الغربية، فضلاً عن جهد الإخوة الطلبة في جامعات الضفة عبر الجماعة الإسلامية الذراع الطلابي لحركة الجهاد الإسلامي في حينه (الرابطة الإسلامية حالياً)، وعلى رأسهم الشهيد القائد/ نعمان طحاينة "أبو الحسين"، وازداد الفرع علواً باللقاءات الفكرية والثقافية التي كان يعقدها قادة الحركة في السجون مع نخبة أبناء الضفة وغزة الذين كانوا شباباً مؤمناً مستعداً للبذل والعطاء.
هذا الزرع أينع وأثمر ببعض الدورات العسكرية المكثفة المحلية والخارجية وبالتراث الكبير الذي خلفه الشهيد القائد/ عصام براهمة وإخوانه في قرية عنزه جنوب محافظة جنين وباقي القرى الفلسطينية "مجموعات عشاق الشهادة" ، فمع اندلاع الانتفاضة الثانية (انتفاضة الأقصى) كانت التشكيلات العسكرية لحركة الجهاد الإسلامي تمتد في كل محافظات فلسطين من محافظة جنين وحتى محافظة رفح وكان العطاء في أوجه، وازدادت العمليات الاستشهادية في شوارع فلسطين المحتلة، وأمام ذلك قررت قيادة الاحتلال شن عملية عسكرية داخل الضفة فيما عرف في حينه بعملية "السور الواقي" في نيسان/أبريل 2002، وخاضت سرايا القدس وقيادتها المركزية في الضفة سباقاً مع الزمن لتجهيز أكبر قدرٍ من العبوات الناسفة والعتاد العسكري، وبرز دور القائد الكبير/ محمود طوالبة في عمليات التصنيع والتجهيز لهذا اليوم الجهادي الكبير.
دخلت قوات الاحتلال بغطرسةٍ وغرور إلى محافظة جنين لمحاصرة المخيم الفلسطيني (مخيم جنين)، ليأتي اليوم الذي أعد له الشهيد القائد/ محمود طوالبة العدة، ونهض بجواره الشهيد القائد/ رياض بدير الكهل الخمسيني الكرميّ معلم الأجيال المبعد إلى مرج الزهور والمعتقل في سجون الاحتلال وسجون السلطة الذي ما برح أن خرج منها حتى يلتحق بركب إخوانه القادة الكبار، والتحم معهما الشهيد القائد/ يوسف أحمد ريحان "كبها" المُكنى بأي جندل الضابط في قوات الأمن الفلسطينية، ليشكلوا جميعهم نموذجاً جهادياً فريداً في الذود عن مخيم الشهداء مخيم جنين. أكثر من عشرة أيام وأرتال الاحتلال مدعومةً بالمقاتلات الحربية تحاول جاهدةً دخول قلب المخيم وقد مَزّق مجاهدو المخيم غطرستها واستكبارها بتضحيتهم وإخلاصهم، وخاب سعي قوات الظلم والاحتلال مراتٍ أمام صمود القادة الكبار من سرايا القدس وشهداء الأقصى و القسام وغيرها من الفصائل المقاومة التي كانت تحكم السيطرة على المخيم، وتباغت قوات الاحتلال من حارات المخيم (الحواشين، الدمج، الزبيدي، منطقة الجبريات) في خطة عسكرية محكمة، وتلقى جيش الاستكبار ضرباتٍ موجعة وسقط منه أكثر من عشرين قتيلاً فضلاً عن عشرات الإصابات، وظل فيه سلاح المقاومة مشرعاً حتى آخر قطرة، وفاضت روح 58 شهيداً إلى بارئها من المجاهدين من أبناء المخيم منهم الشهداء القادة المذكورين وغيرهم من الشهداء الكرام في معركة أسطورية أمام جيشٍ مزودٍ بأحدث التقنيات العسكرية والفنية في حين لم يمتلك أبناء المخيم سوى الإيمان بالله وإرادتهم الصلبة وتمسكهم بحقهم في العيش بكرامة في أوطانهم، واعتقل عشراتٌ من أبناء محافظة جنين ومخيمها وأصدرت محاكم الجور الاحتلالية أحكامها المجحفة بالسجن المغلظ لهؤلاء الشبان الذين كان ينتمي معظمهم إلى سرايا القدس المظفرة.
هذه الذكرى العظيمة على قلوبنا التي قدمت قدراً كبيراً من الكرامة والقوة والإباء، تعيد تذكير الأذهان بالأهمية الاستراتيجية للضفة الغربية كأحد أهم ساحات العمل الجهادي المقاوم في ظل التغول الصهيوني المستمر على الأرض الفلسطينية ومقدراتها المائية وعمليات الضم الممنهجة، لذا لا بد من بذل كل جهد ممكن لتمكين قدرات المقاومة والجهاد في تلك الساحة، وهذا يفترض وقفةً فلسطينية عربية مسلمة نحو مساندة المجاهدين في الضفة المحتلة، وفلسطين غير قابلةٍ للتجزئة، فالمسجد الأقصى والقدس والضفة المحتلة جزءٌ من أرض فلسطين التاريخية وكل المصادرات وتسريب العقارات وتزوير الحقائق القانونية لا يمكن أن يطمس الحقيقة التاريخية، ولا يمكن أن يشطب حقبة ناصعة من التاريخ الأصيل للقدس ولفلسطين، ففلسطين قبلة صلاة المسلمين الأولى وقبلة جهادهم المستمرة على مدار عشرات القرون، وهذا ما يجب أن يعيه رعاة التنسيق الأمني بين السلطة الفلسطينية والعدو الصهيوني من أن هذا التنسيق قد أخل بقدرة الشعب الفلسطيني على الجهاد والقتال، فالفلسطينيون قادرون على توجيه الضربات لهذا الاحتلال و رد الصاع صاعين، ووجود عقبةٍ كعقبة التنسيق الأمني تشكل أحد أهم المعيقات أمامهم، هذا التنسيق أحد مخلفات اتفاق أوسلو المشؤوم الذي لم يكلف أحدٌ نفسه حتى اللحظة مراجعة تلك السنوات البائسات التي أنتجها هذا الاتفاق سيء الذكر. ختاماً، فإن حالة التآخي بين قوى المقاومة بين أبناء سرايا القدس وكتائب الأقصى وكتائب القسام في معركة جنين وفي غيرها من المحطات القتالية المشرفة للشعب الفلسطيني نموذج يحتذى به في ساحات القتال والجهاد، وهي سمةٌ من سمات المقاومة الفلسطينية تحت شعار (وحدة الدم) لأنها تجتمع على قضية المقاومة القضية العادلة لشعوب الأرض الحرة.