في شوارع غزة المدمّرة، تسير طفلة لم تتجاوز السابعة من عمرها حافية القدمين، تحمل دمية محطّمة بيد، وصورة عائلتها باليد الأخرى، وتتمتم: "كلهم راحوا". لم يبقَ لها أحد. فقدت أمها وأباها وإخوتها في قصفٍ واحد، وتحولت في لحظة من طفلة مدللة إلى يتيمة بلا سند، مثل مئات الأطفال الذين أصبحوا وحدهم، تمامًا، في وجه هذا العالم القاسي.
تُشير الإحصائيات الأولية الصادرة عن وزارة التنمية الاجتماعية في غزة إلى أن أكثر من 17,000 طفل فقدوا أحد الوالدين على الأقل، فيما يُقدر أن هناك ما لا يقل عن 3,000 طفل فقدوا أسرهم بالكامل خلال العدوان المستمر منذ أشهر. هؤلاء الأطفال يعيشون الآن في ملاجئ مؤقتة، أو بين أقارب لا يمتلكون القدرة على رعايتهم، في ظل شح الموارد وتدهور الوضع الإنساني إلى أدنى مستوياته.
يقول الأستاذ عبد الرحمن سمير، أحد المسؤولين في مركز رعاية الطفولة بغزة: "نواجه صدمة نفسية مضاعفة لدى هؤلاء الأطفال. لا يمر يوم دون أن نستقبل طفلاً دخل في نوبة بكاء هستيرية أو صمت مطبق. بعضهم يرفض الطعام، وبعضهم يتحدث مع صور والديه، كأنه لا يصدق أنهم ماتوا."
ولم يقتصر الأثر على الجانب النفسي، بل تفاقمت التحديات القانونية والاجتماعية. فالكثير من الأطفال لم يُعرف لهم أقارب مباشرين، وتعثرت إجراءات التبني أو الكفالة القانونية بسبب ظروف الحرب وعدم عمل المحاكم بشكل طبيعي. ونتيجة لذلك، يبقى مصير العشرات منهم معلقًا، دون رعاية رسمية، ودون مدرسة، ودون منزل.
تقول الحاجة أم خليل، التي استقبلت ثلاثة أطفال فقدوا عائلتهم: "ما قدرتش أشوفهم بالشمس والبرد بلا غطا، جبتهم عندي... بس والله يا بنتي ما بقدر أطعم ولادي وهدول كمان. الوضع صعب كتير، وكل يوم بخاف يفوتوا عليا ويقولوا ما بصير تظلي معهم بدون إذن رسمي .
في خضم هذه الكارثة، تقف منظمات الإغاثة عاجزة أمام الكمّ الهائل من الحالات، فيما تكتفي المؤسسات الدولية بإصدار البيانات والتحذيرات. ووسط هذا العجز، يزداد شعور هؤلاء الأطفال بالخذلان: لا من يحتضنهم، ولا من يُعيد لهم ما سُلب في لحظة من دفء الأهل، وأمان البيت، وملامح الطفولة.
الطفل سامر، 8 سنوات، فقد أمه وأباه وأخته في غارة على منزله في دير البلح. يجلس الآن في ركن بارد من إحدى المدارس التي تحولت إلى مراكز إيواء ويقول: "بابا قال لي هنهرب... بس ما لحقنا... وأنا نمت، وصحيت لحالي". عبارة تحمل من البراءة ما يكفي لتمزيق قلب الإنسانية، إن وُجدت.
هؤلاء الأيتام لا ينتظرون الحلوى أو اللعب... إنهم ينتظرون حضنًا، بيتًا، ونظرة رأفة. ينتظرون أن يعرف العالم أنهم لا يريدون أن يكونوا "أرقامًا" في بيانات الأمم المتحدة، بل أطفالًا لهم أسماء، وحكايات، وأحلام بسيطة جدًا... أن يكون لهم بيت، وأم، وأب... لا أكثر.
