بقلم: حيدر عيد
أصبح من الواضح للعيان أن التيارات الثلاثة المهيمنة والمتشابكة أيديولوجيًا وسياسيًا، على الرغم من التباينات الشكلية والتناحرات المصلحية قد أوصلتنا لطريق مسدود، وبالتالي تعيش أزمة فكرية ووجودية عميقة. هذه التيارات التي يمكن أن نطلق عليها الأسلوة، أي التيار اليميني المهيمن منذ عقود على صناعة القرار الفلسطيني. والأنجزة، التيار المتمثل بفلول اليسار الستاليني الذي تحول إلى قيادة منظمات الأنجزة التي تعتاش على المعونات المالية الغربية. والأسلمة، بما تمثله حركة حماس وحلفاؤها من توجهات إسلاموية تنتمي طبقيًا لنفس اليمين الذي يرى في الدولة الفلسطينية على حدود 67 حلًا يمكن القبول به. هذه التيارات الثلاثة أصبحت مشلولة في مواجهة التحدي الوجودي الذي طرحته خطة الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، المسماة بـ"صفقة القرن" التصفوية. وخطّة الضم التي تبنتها حكومة اليمين الإسرائيلي التي ستعمل على التهام 30% مما تبقى من الضفة الغربية المحتلة. وبالتالي، القضاء على "الحلم" الذي تبنته التيارات الثلاثة وسخّرت له كل مواردها المادية والمعنوية والفكرية، "حلم" الاستقلال على 22% من أرض فلسطين التاريخية مع اعتبار القدس الشرقية، التي تشكل 11.48% فقط من مساحة القدس، عاصمة الدولة المستقلة، منزوعة السلاح إن قُبِلت إسرائيل بذلك.
تأتي خطة الضم كتكملة عملية للصفقة المذكورة، والتي بدأت بالاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، ثم نقل السفارة الأميركية للقدس، وسحب الدعم المالي المقدم لوكالة الغوث الدولية والبدء بتصفية قضية اللاجئين وحقهم بالعودة. وأيضًا، الاعتراف بالجولان المحتل كجزء من إسرائيل، وصولًا للاعتراف "بحق" إسرائيل بتطبيق سيادتها على المستعمرات المقامة في أراضي الضفة المحتلة. أما غزة، فلا يوجد حل لها، وبالتالي اعتبار الحصار الإبادي حالة طبيعية على الجميع التعايش معها، على الرغم من كل الضوضاء التي يثيرها القطاع الصغير من حين لآخر كونه أكبر تجمع للاجئين الفلسطينيين الذين يذكرون كل الأطراف بجذور القضية الفلسطينية.
كل ذلك يتطلب أرضية عربية مستسلمة بالكامل، متنكرة للحقوق الفلسطينية، مستعدة للقبول بإسرائيل كجزء لا يتجزأ من شرق أوسط جديد خال من أي التزام قومي، أو قانوني، أو حتى أخلاقي تجاه الشعب الفلسطيني.
ومؤخرًا، جاء خطاب الرئيس الفلسطيني، محمود عباس، الذي أعلن فيه أن السلطة "أصبحت في حل من جميع الاتفاقيات والتفاهمات مع الحكومتين الأميركية والإسرائيلية بما في ذلك التنسيق الأمني"، وبالتالي فإن "على سلطة الاحتلال الإسرائيلي ابتداء من الآن، أن تتحمل جميع المسؤوليات والالتزامات أمام المجتمع الدولي، كقوة احتلال في أرض دولة فلسطين المحتلة، وبكل ما يترتب على ذلك من آثار وتبعات وتداعيات، استنادا إلى القانون الدولي والقانون الدولي الإنساني، خاصة اتفاقية جنيف الرابعة". وهذا يعني، عمليًا، إن تم تطبيقه على أرض الواقع، العودة للمربع الأول من علاقة كولونيالية لم تتغير. وإن كان تم تجميلها، بين مستعمِرٍ مضطهِد ومتسعمَرٍ مضطهَد في ظل نظام أبرتهايد مغرق في إقصائيته القومية والدينية والثقافية والإثنية.
لكن يبقى الطرح ناقصًا طالما لم يتم تقديم البديل. والحقيقة أن عجز البرامج السياسية الموجودة على الساحة، تلك التي تم التطرق لها في بداية المقالة، بسبب الغياب الكامل للرؤية التحررية، بمعناها الواسع، يحتم الاستماع لمن يطرح البديل في هذه اللحظة التاريخية المفصلية. ويبقى السؤال بعد الخطاب المذكور: ما هي الخطوة القادمة؟ وهل تعبر عن إجماع فلسطيني لا يبدو في الأفق طالما أنه لم يتم استشارة أي توجه آخر قبل إلقاء الخطاب؟
من الواضح أننا قد بدأنا بالتحرك نحو واقع ما-بعد-أوسلوي. لكن مغادرة نهج التسوية وإنهاء اتفاق أوسلو وتوابعه تتطلب توحيد الجبهة الداخلية وفق برنامج وطني يشمل كل مكونات الشعب الفلسطيني، مع تفعيل وتصعيد المقاومة الشعبية والتبني العملي لكل أشكال المقاطعة. ولكن هذا، للأسف، لا يبدو في الأفق.
وهنا تبدو التجربة الجنوب أفريقية ماثلة للعيان: رؤية إستراتيجية واضحة في مواجهة الأبرتهايد: إنهاء العنصرية بالكامل، ولا شيء أقل من ذلك كنقطة انطلاق نحو أفق ديمقراطي يعتمد أساسًا على مبدأ المساواة الكاملة لكل سكان جنوب أفريقيا بغض النظر عن العرق أو الدين أو الجنس. كل محاولات المجتمع الدولي الرسمي إقناع قيادة حزب المؤتمر الوطني الأفريقي والجبهة الديمقراطية المتحدة القبول بأقل من ذلك باءت بالفشل الذريع، وصولًا إلى لحظة الحقيقة حينما توجه كل مواطني الدولة لصناديق الاقتراع عام 1994 في مشهد تاريخي أعلن نهاية حقبة سوداء ونظام ترك وريثًا وحيدًا في فلسطين.
كان من الضروري أن يتم الدعوة لاجتماع قيادات الفصائل والمجتمع المدني خارج فلسطين المحتلة. وأن يتم العمل على عودة القيمة الفعلية لمنظمة التحرير بعد انضمام كل التوجهات وقطاعات المجتمع المدني لها، والإعلان عن التمسك بكل الحقوق الأساسية دون تغليب واحد على آخر، وقطع كل العلاقات مع دولة الأبرتهايد والاستعمار الاستيطاني، وتبن عملي (وليس نظريا فقط) لنداء المقاطعة وعدم الاستثمار وفرض عقوبات على إسرائيل، وتجريم التطبيع. ثم القطع بالكامل مع حل الدولتين العنصري كونه لا يلبي الحد الأدنى من حقوق الشعب الفلسطيني، ويتعارض مع حقي العودة والمساواة. كل هذا يتطلب العمل مسبقًا على إعادة تعريف السلطة الوطنية الفلسطينية والدور الوظيفي الذي نتوقعه منها بعد الإعلان أننا "في حل من كل الاتفاقيات".
من الملفت للنظر أن أول تصريح لوزير الخارجية الجديد في حكومة الأبرتهايد الإسرائيلي، الجنرال غابي أشكنازي، هو أن "صفقة القرن توفر فرصة تاريخية لبلورة مستقبل إسرائيل لعشرات السنين المقبلة"، مثل هذه التصريحات تتطلب بالضرورة طرح تصور يؤدي لبلورة مستقبل فلسطين للسنين المقبلة، وأيضًا لمستقبل ما-بعد-صهيوني، خال من أشكال الاضطهاد الكولونيالي. يحترم حقوق الإنسان بغض النظر عن الخلفية الدينية أو الإثنية. مستقبل بلا احتلال أو استعمار أو أبرتهايد.
عن موقع "عرب 48"
جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي "شمس نيوز"