. قلم/ رياض عبدالكريم عواد
في خضم زيارة وفد خبراء الصين العشرة لدولة فلسطين لتقديم العون الفني للفلسطينيين في معركتهم ضد كورونا، نتمنى أن يكون لهذه اللفتة أبعادا أخرى بعيدا عن كورونا، نتذكر أحد قادة الصين العظام ومنظر وقائد نهضتها الحديثة صاحب مقولة:
لون القط لا يهم طالما أنه يصطاد الفئران؟!
صاحب هذه المقولة العجوز دينغ شياو بينغ.. مهندس الإصلاح الصيني، المنظر والقائد السياسي، رفيق ماوسي تونج، الذي ولد في عام 1904، وقاد عملية الإصلاح في بلاده وهو عجوز بعد أن تعرض للسجن والأبعاد من رفاق الأمس لأنه جاهر بالعداء للثورة الثقافية في مطلع السبعينيات حيث اكتوى بنيرانها، ونجا من الإعدام بعد أن كان على بعد خطوات منه، وأطبقت عليه أحداث ما بعد ماو بصراعاتها ومؤامراتها وقلاقلها تبتغي رقبته أو كتم أنفاسه، وألقي به في صحراء شنغيانغ وعمل في تنظيف مقار اللجنة المركزية للحزب.
أصبح في عام 1956 السكرتير العام للحزب، وأحد النواب الأوائل الاثنى عشر للرئيس ماو . وفي العام نفسه تولى نيكيتا خروتشوف سلطة الرئاسة في الاتحاد السوفييتي بموسكو، وانتقد بشدة أعمال ستالين اللاإنسانية أمام الاجتماع العشرين السري لمؤتمر الحزب. ومن هذا الموقف السوفييتي تعلم دينج درساً ظل عالقاً بذاكرته إلى آخر عمره ألا وهو: نبذ عبادة الأشخاص أياً كانوا ومهما فعلوا أو علوا علواً كبيراً. ونقل هذا الدرس إلى ماو بعد عقد من الزمن، لكنه دفع هو الثمن ؛ إذ كان سبباً في تحريك الحرس الأحمر نحو ما عرف بالثورة الثقافية الطائشة الباطشة.
وصفه الزعيم الصيني ماو تسي تونغ بأن يبدو مرنا في ظاهره لكنه صلب في جوهره كإبرة في كومة قطن. لذلك استطاع أن يتفاوض مع البريطانيين وينجح في اعادة هونغ كونغ للحضن الصيني عام 1997، دون أن يتمكن من أن يشهد تحقيق هذا الحلم بعينه، حيث وافته المنية قبل ذلك بأشهر معدودة.
كما أثنى ماو عليه أمام خرتشوف؛ فعندما كان في زيارة لموسكو في عام 1957 انتحى جانباً متحدثاً مع نيكيتا خروتشوف وقال له وهو يشير من بعيد إلى دينج: « انظر إلى هذا الرجل القصير هناك، إنه مفرط الذكاء وله مستقبل عظيم يعلو كثيراً فوق قامته»
جاهر بخلافه في عهد ماو مع مقولة "من الأفضل أن نبقى فقراء في ظل الاشتراكية على أن نغتني في ظل الرأسمالية" وأكد أن "الفقر ليس اشتراكية." وحتى تعليقه المشهور حول "لون القط لا يهم طالما أنه يصطاد الفئران" فقد جاء إثر خلاف فكري عام 1961 حول تطوير الإنتاج الزراعي.
اتهم دينج في زمن الثورة الثقافية بالفاشية والخيانة وبطائفة من الجرائم الأخرى، وقدم للمحاكمة العلنية في شهر أغسطس لعام 1967. وخلال المحاكمة وصف رجال الحرس الأحمر دينج - الذي أنشأ هذا الحرس الأحمر - بأنه متسول الرأسمالية و خائن وفاشي، وظل الهجوم السافر عليه لبضع ساعات وهو صامت محتقن الوجه من الغيظ، وكل ما فعله أن نحى عن أذنيه سماعة التقاط الأصوات إذ كان سمعه قد ضعف. اكتفى ماو بتسفيه معارضة صديقه القديم وسمح لدينج وزوجته بالمعيشة في بيتهما بالعاصمة تحت حراسة مشددة ومراقبة مستمرة لمدة عامين، ثم أمر بترحيلهما إلى الجنوب، فسكنا جانباً من مدرسة مهجورة للمدفعية، وأُلزما بالعمل نهاراً في مصنع للجرارات. وأشد ما أحزنهما في تلك الفترة هو موت الشقيق الأصغر لدينج، بعد أن دفعه الحرس الأحمر إلى الانتحار، ثم إصابة ولدهما دنج بوفانج - طالب الفيزياء بجامعة بكين - إصابة أعجزته، فقد زُعم أنه سقط من نافذة بالدور الرابع بالجامعة، وقيل إن الطلبة الشيوعيين الماويين المتطرفين هم الذين دفعوه نحوها عُنوة فأصيب بكسر في عموده الفقري مما أدى إلى الشلل.
أمضى دينج فائض وقته بهذا المنفى الكئيب في القراءة، والمشي في ممرات البيت، وفي التفكير المتواصل فيما تحتاجه الصين، ومراجعة الحسابات وسابق التقديرات لبلده للخروج بالبلاد من انتكاستها، والنهوض بها عفية من كبوتها.
قاد هذا السياسي والمنظّر، جمهورية الصين الشعبية بين عامي 1978 و1992، عند عمر 74 إلى 88 سنة، نحو تبنى رؤية اقتصادية ساهمت بتحقيق البلاد نهضة اقتصادية كبرى. له نبوءة أطلقها عام 1978 قال فيها "الصين تحتاج إلى نصف قرن لاستكمال عملية التحديث والسيطرة السياسية والاقتصادية".
بعد موت ماو - في شهر سبتمبر لعام 1976 - بشهر واحد كانت جيانج وعصابة الأربعة في ظلمات المعتقل، وفي العام التالي عاد دينج إلى العاصمة، وظل بها سيداً مطاعاً مهاباً إلى أن رحل عن الدنيا في سنة 1997 .
في قرية بيغانجكون مهبط رأس دينج ، نوع معمر من الصبار الشوكي إذا انبثقت أزهاره كل مائة سنة، تفائل أهل القرية وتوقعوا حظاً سعيداً مبهراً لواحد منهم. وفي عام 1979 أزهر الصبار بتلك القرية بعد طول انتظار! وفي تلك السنة كان دينج ابن تلك القرية يجلس في بيكين على عرش إمبراطورية الصين، قابضاً على زمام السلطة العليا بيد من فولاذ، بعد أن أطاح بالماويين.
لقد أصبح في مقدور ملايين الفلاحين الصينين أن يمتلكوا قطعاً صغيرة من الأراضي يزرعونها بحرية لحسابهم، وأن يبيعوا بحرية الفائض لديهم من المنتجات والمحاصيل، وأن يستثمروا أموالهم في المصانع والمعامل بقريتهم. وسرعان ما تغيرت الصورة في الريف والقرى ؛ حيث 80% من سكان الصين يعيشون بها. لم تعد هناك مجاعة ولا شح في مواد الطعام، بل صار البعض يملك من المال ما يكفي لبناء بيت يسكنه ويتملكه. ولقد أزهر الربيع على مدينة بيكين لعام 1979 وألقى ظلاله على حطام القفزة الاقتصادية الكبرى ودمار الثورة الثقافية.
توفي دينغ شياو بينغ يوم 19 فبراير/شباط 1997 بالعاصمة بكين عن عمر ناهز 93 عاما، مخلفا إرثا سياسيا وإسهامات سيتذكرها الصينيون كشاهد على نهضة بلدهم من التخلف إلى مكانة متقدمة.
أوصى بينج العجوز بأن تنتزع عيناه بعد وفاته وتسلما لدارسي الطب، وأن يحرق جسده ثم ينثر رماده فوق مياه البحر ، ولا يقام له نصب أو تمثال أو ضريح. وارتضى لنفسه أن يعيش ما تبقى له من أيام في بيت خارج العاصمة شبيه بالمخزن الحكومي الكالح، واسمه يغني عن وصفه ( ميليانجلو ) ومعناه مخزن حبوب الأرز. و أخيراً هناك ، وجد الإمبراطور الغير متوج متسعاً من الوقت للإستمتاع بدفء الأسرة ، ولعب لعبته المفضلة منذ صغره - البريدج - ، والتفكير الهاديء في معنى الحياة.
لقد كانت آخر كلماته وكأنها بلسان حكيم صيني قديم:
« إن الزعماء والقادة رجال بشر وليسوا آلهة!»
وكان يعني بذلك أنهم عرضة للصواب وللخطأ ، فما كان من خطأهم يصحح أو يترك ، وما أصابوا فيه فإنه يصان ويتبع.
ارجو ان تلاحظوا أن هذا القائد كان عجوزا، 74 سنة، عندما قاد عملية الإصلاح في بلاده، واستمر حتى استقال عند عمر 88 سنة ليفسح المجال لقيادة جديدة، عملية الإصلاح والقيادة بحاجة إلى أفكار وخبرات ولا علاقة لها بالعمر.
المقولة حول القط تشابه مقولتنا الشعبية "اللي بتغلب به العب به" هذا يعني تسخيف الشعارات والمقاولات الكبيرة والانحياز دائما للمكن التاريخي والإنجاز على الأرض.
كما يعني أنه حان الوقت ليتعلم الفلسطينيون انه لا قدسية لأي من وسائل النضال ولا لمدعي حملة السلاح، الحقائق والنتائج على الأرض هي الحكم، بعيدا عن الزعبرة والحناجر المتضخمة.
ويعد المثل الشهير "اطلبوا العلم ولو في الصين" الذي رقاه البعض ليكون حديثا مروياً عن النبي محمد صلى الله عليه وسلم، إلا أن بعض العلماء ضعفه لعلل يعرفها رواة الحديث، لخير دليل على أهمية العلم والمعرفة وقدمهما، خاصة ان كانت قادمة من الصين، أقدم الحضارات وأعرقها.