بقلم: نبيل عمرو
المحللون الذين اهتموا بأوضاع الكون، أكثروا من استخدام عنوان ما بعد «كورونا» ليس كما قبلها، أما الفلسطينيون فقد أضافوا إلى العنوان الطبي عنواناً آخر يتصل بهمّهم الملحّ... ما قبل تموز/ يوليو 2020 ليس كما بعده.
ويشتعل جدل قوي في كل بيت فلسطيني من دون يقين في تحديد صورة الوضع بعد تموز، أي بعد بلورة القرار الإسرائيلي النهائي بشأن ضم أجزاء من الضفة الغربية وكيفية تنفيذه.
يتابع الفلسطينيون الجدل الموازي الدائر في تل أبيب وواشنطن والتسريبات الأولية التي تصدر عن أطراف هذا الجدل، الذين هم طرف واحد في أمر الضم، ولكنهم ليسوا كذلك في كيفية تنفيذه وتحديد مساحاته، وما يهم الفلسطينيون كذلك كيف سيكون حال المواطنين الذين سيشمل الضم الأراضي التي يمتلكونها ويعيشون عليها، ثم كيف سيكون حال السلطة المسؤولة عن شؤون حياة الملايين من الفلسطينيين، آخذين في الاعتبار مساحة وعمق التداخل الشامل بين واقع الفلسطينيين، وخصوصاً في الضفة، وبين إسرائيل التي تمارس احتلالاً انتقائياً تتجلى تطبيقاته تارة على هيئة تدخل عسكري مباشر يقع فيه جرحى وقتلى وتدمير بيوت وتدخل أمني يطال كل مناطق الضفة حيث الاعتقالات اليومية التي لم توفر أحداً حتى كتّاب الملاحظات على مواقع التواصل الاجتماعي، ويتزامن هذا الاحتلال الوحشي، من دون مبالغة في الوصف، مع بعض تسهيلات في شؤون الحياة اليومية، تضيق وتتسع حسب حاجة إسرائيل وما يلائم أجندات سيطرتها على الوضع الفلسطيني من كل جوانبه، وحكاية التصاريح التي لا يتحرك الفلسطيني من دونها تكفي عنواناً لسيطرة إسرائيلية تفصيلية على حركة الفلسطينيين بأي اتجاه، والأمر هنا يطال الغالبية العظمى من المواطنين، فمن لا يحمل تصاريح حركة، فلا مجال أمامه لكسب قوت يومه.
كل هذا، ونحن لم نصل بعد إلى الأول من تموز، ولم نعرف على وجه الدقة ماذا سيفعل الإسرائيليون، خصوصاً أن الضم ليس مجرد قرار سياسي، بل هو تغيير على أنماط الحياة على نحو لا يستطاع تفادي تأثيره المباشر، ليس فقط على من يشملهم الضم، وإنما على وتائر حياة المجتمع الفلسطيني كله، الذي يظل وثيق الصلة بعضه ببعض، سواء حمل أجزاؤه مسميات أوسلو A B C أو اتحد واقعه تحت سيطرة إسرائيلية مباشرة أو غير مباشرة على حياة الجميع.
الأسئلة المثارة قبل الأول من تموز، الذي يقترب، كلها مقلقة، بل مخيفة، وما يضاعف القلق هو غموضها حتى الآن، واحتمال انهيارات متواترة للبنى التي وفّرت بعض استقرار نسبي للحياة الفلسطينية، وعنوانها السلطة ووزاراتها وأجهزتها الأمنية ومرافقها الخدمية، التي إن لم تكن نموذجية فإن الفلسطينيين تعودوا عليها، ورأوا فيها بعض استقلال عن الهيمنة الاحتلالية المطلقة في مجال التعليم والصحة والاقتصاد والإدارة وغيرها، وأكثر الأسئلة تداولاً في مرحلة غموض الاتجاه، هل سيحل محل ذلك النسبي الإيجابي فراغ وخلل وتهديد، تُنشئه الفوضى المحتملة التي سيضاعفها حتماً عنف منفلت من عقاله، ومعظمه سيكون فردياً، وهذا ما يخيف إسرائيل أكثر، وما يوسع دائرة ردود فعلها العنيفة، خصوصاً الاستباقية منها، ومع تكاثر التساؤلات في الضفة تثور تساؤلات، وإن كان بوتائر مختلفة في غزة، ذلك أن ما بعد تموز سيحمل انهياراً محتماً للصيغة الموضوعية التي أدت إلى هدوء نسبي على الحدود، لتنهض تلقائياً نار المواجهات الحتمية التي ستنهي موضوعياً جهود التهدئة التي كانت تبذل، وأحياناً تقترب من خلاصات فعلية، ذلك أن فصائل غزة الواقعة في مجال تأثير «حماس» و«الجهاد» لن تسمح بتخلفها عن نداء الواجب الذي أملاه الضمّ الكارثي، إذ ستعمل بكل قدراتها على إثبات أن المقاومة الفعلية «هنا» واشتعالاً كهذا سيعيد الآلة العسكرية الإسرائيلية إلى مضاعفة العمل المباشر.
ما أسوأ حظّ الفلسطينيين في هذا الوقت بالذات، ذلك أن ما يحيط بهم من تحديات احتلالية وإلحاقية يتزامن مع عدة أوبئة صحية وسياسية حتى استراتيجية، فـ«كورونا» المستبد يضرب بموجته الثانية هشاشة الحالة الفلسطينية، كما لو أنها على موعد مع تموز الأسود، والعواصف المثارة في ساحات الربيع العربي، ومن هم على تخومها، أوجدت مبرراً لكثيرين للاستنكاف عن تبنيهم التقليدي، ودعمهم لأهل القضية التي كانت مركزية، ولكنها في الواقع لم تعد كذلك، ومع الضمّ الوشيك وموجة «كورونا» الثانية لا بد أن يتضاعف الحمل الفلسطيني، والمسألة والحالة هذه ليست مسألة رواتب تقطع أو تتناقص لـ200 ألف موظف وأكثر، وإنما تغيير مسار حياة نحو اتجاه لم يتحدد تماماً بعد، وإضافة مهام جديدة للنضال الوطني الفلسطيني المرهق أصلاً والمحاط بتحديات من داخله ومن حوله، ومن الاحتلال الذي سيضيف إلى أجنداته ضماً يبدد القضية الفلسطينية.
خيار الطبقة الفلسطينية المرجح حتى الآن في مواجهة كل ذلك هو الذهاب إلى عقلانية تقلل من أخطار ما هو قادم، وتوفر مصادر لتغذية معركة سياسية ذات مصداقية على مستوى العالم، غير أن هذا العاقل والمسؤول يثير سؤالاً؛ هل ستظل الأمور تحت السيطرة أم أن إسرائيل التي تلقي كل يوم في نهر كوارثها جثة شاب أو أكثر، كما لو أنها تهدي الفلسطينيين جنازات تذكي نار انفعالهم الحار، وترفع من جدران يأسهم... هل ستسمح إسرائيل بهذا للعقلانية الفلسطينية أم تستمر؟ المقدمات ليست مشجعة حتى الآن، وما بعد تموز سيتولى الميدان الإجابة عن كل الأسئلة.
عن صحيفة الشرق الأوسط
جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي "شمس نيوز"