بقلم: أحمد المدلل
في علم الاجتماع السياسي صنف من البشر يمتلك مهارة عجيبة للوصول والقفز إلى سدة القيادة بطريقة سحرية، لا يمكن لأحد أن يكتشف سرّها ويفكك رموزها... منذ بدايات حياتهم ومسيرتهم فى مرحلة التسلق لا يشعر بهم أحد... غابوا عن بدايات وأصول الفعل الحقيقي وعاشوا في بيئة لا انتماء لها بالوطن والثورة... عاشوا حالة مفاصلة بين معاناة شعبهم وطموحاتهم الشخصية في الحياة... ومن هؤلاء من هاجروا واستوطنوا في بلاد الغربة طلباً للاسترزاق أو التعليم العالي أو الهروب من أراضي الصراعات وانسجموا مع طبيعة البلاد التي سكنوها، وغابوا...
لم يعد لهؤلاء رابط بينهم وبين شعوبهم، ومنهم من كان ينتظر ما ستؤول إليه الأمور فى بلادهم ليعود قائداً أو مستثمراً ... وللأسف الشديد أُبتليت أمتنا العربية والإسلامية بالكثير من هؤلاء فى مرحلة ما بعد الاستقلال، حيث ثارت الشعوب وقاومت ودفعت فاتورةً باهظة من التضحيات الكبيرة من حياتها وأرواحها ودمائها وفلذات أكبادها في صراعها مع الاحتلال الجاثم على صدرها وأرضها أو ما سُمّى "الاستعمار" والاستبداد...
وكم من أجيال ضاعت في دروب الثورة والتحرر ... وكان شعار تلك الشعوب هو الإصرار على المضي في الجهاد والمقاومة حتى نيل حقوقها كاملة بالحرية والحياة الكريمة.
وفى لحظة اشتداد الخناق على الاستعمار أو الحاكم المستبد، وعندما تبدأ الشعوب بلملمة جراحاتها بعد مقاومة طويلة، وحين تبدأ ملامح الانتصار تلوح في الأفق أمام هذه الشعوب المنهكة فجأةً تغيب أسماء رموز الثورة من القادة الأبطال والذين لم يبرحوا الميدان، وتظهر في الأفق أسماءٌ ووجوهٌ لم يكن لها حضور أو وجود في ميدان الثورة والمقاومة ولا تعرفها الشعوب، وتبدأ وسائل الإعلام الموجّه تضخ في نفخ تاريخ هؤلاء المزيف، وتُسلّط الأضواء عليهم وكأنهم أنبياء الثورة الحقيقيون، الذين وضعوا لبناتها، وما يؤكد ذلك ما تعلمناه في مؤسساتنا التعليمية منذ الصغر في دروس التاريخ عن الدول التى تحررت من الاستعمار أو الاستبداد والزعماء والقادة التي حكموها - ولأن التعليم فى بلادنا موجّه - يرفع أقواماً ويُسقط آخرين. أدركنا في مرحلة الكبر والبحث والاستقصاء وسعة الاطلاع والآفاق الكمّ الهائل من التزييف الذي تعرض له التاريخ الذى علّمونا إياه.. قرأنا عن ثوار وليسوا بثوار، بل إنهم باعة التاريخ والأرض والهوية "سماسرة السياسة" الذين ألبسهم الاستعمار ثياباً مزيفة من الثورة والوطنية ليبقى حاضراً بالرغم من انسحاب جيوشه وآلياته.
وكثيراً ما تجاهلت صفحاتُ التاريخ المزيف أسماءَ أبطالٍ حقيقيين كانوا شعلة المقاومة ونبراساً للتضحية، وُلدوا من رحم المعاناة والوجع وهم الذين كانوا يستنهضون الشعوب.. ولما بدأ الاستعمار أو الحاكم المستبد بالرحيل وخوفاً من أن يجنى حصاد الثورة أهلُها والقائمون عليها كنتيجة طبيعية، يبدأ التتويج الإعلامي لتقديم أسماء قيادات إما عاشت مغمورة في بلادها لا أثر لها فى عالم الثورة ولا تأثير لها في واقع البلد السياسي والاجتماعي والثقافي والاقتصادي، وإما أنها عاشت حياتها في الغرب لعقود طويلة من الزمن وأخذت جنسية البلد التي عاشت فيه بأريحية، وتابعت مصالحها الخاصة، وفجأة نجدها تتقدم للقيادة والزعامة وتبدأ بالانقضاض على شعوبها والمقاومين الحقيقيين، الذين كانوا وقود الثورات ورموزها بل كانوا من أهم عوامل انتصارها.
لم يكن هناك أدنى شك أنّ هؤلاء الذين سُلّطوا على رقاب الأمة العربية والاسلامية إنما كانوا يُصنعون على أعين أمريكا و الغرب وبشكل هادئ وقد رضعوا الانتماء إلى الغرب الاستعماري الأمريكي والأوروبي والذي استخدمهم كأداة للسيطرة على مقدرات الشعوب وملاحقة المخلصين من أبنائها وطمس أيّ محاولة للنهوض بواقع الشعوب، يعنى أن الاستعمار وبالرغم من خروجه واندحاره بآلته العسكرية عن البلاد التي كان يحتلها وكان يدفع تكلفة عالية من احتلاله هذا، نراه لا يزال يحكم ولكنّ أدواته الجديدة هي الزعامات التي صُنعت بيديه ولا يثق إلا بها ويمدها بكل أشكال الدعم اللوجستي والمادي والسياسي والمعنوي، ويتدخل عسكرياً إذا لزم الأمر لتثبيت وجودهم.
وتبقى حالة الاستبداد والاضطهاد للشعوب كما هي وكأن شيئاً لم يكن.. هذا ما حدث في معظم الدول العربية والإسلامية في عقود الخمسينات وما بعدها.. وما حدث بعد عام ال٢٠٠٠ ميلادي في أفغانستان عندما قامت أمريكا بغزوها وطرد حركة طالبان، التي استطاعت أن تسيطر على أراضى البلاد بعد احتراب أمراء الجهاد هناك فيما بينهم، فما كان من أمريكا إلا أن فرضت على حكم أفغانستان حينها الرئيس كرزاي وكيلاً لها في حكم أفغانستان، وكان معروفاً عنه ميوله الغربية.
وما حدث في العراق بعد أن غزته أمريكا وأسقطت صدام، فقد مارست أبشع الجرائم التى يندى لها جبين الإنسانية، جاءت أمريكا حاملة لنخب عراقية متغربة على ظهر الدبابات الأمريكية، ولا تزال العراق تدفع ثمن ذلك قتلاً ودماراً وحرقاً وتشريداً وسرقة ممنهجة لمقدرات العراق الهائلة، ومحاولة لطمس هوية العراق الحضارية، أقل ما يُطلقه عليهم أهل العراق من أوصاف "سماسرة السياسة".. وما آلت إليه أوضاع أمتنا العربية بعد ثورات الربيع العربي في وقتنا الحاضر والأسماء التي تصدرت المشهد السياسي خير دليل على حصاد مرّ لا تزال أمتنا تغوص في وحله الآسن.
وأمّا في الحالة الفلسطينية ومرحلة التحرر التي لا يزال الفلسطينيون يعيشونها منذ ما يقارب القرن من الزمان، والتي بدأت برموز تاريخية حقيقية يحاول البعض طمسها، وقد تكررت تلك النماذج العظيمة في مسار الثورة والمقاومة، إلّا أن بروز زعامات وقيادات لم ترتقِ إلى مستوى قداسة القضية، ولم تُقدر الإرث النضالي للشعب الفلسطيني ستكون سبباً رئيسياً وعاملاً قوياً في تدمير المشروع الوطني والتحرري الفلسطيني وضياع فلسطين لصالح عدونا المحتل.