بقلم: د. وليد القططي
يقول المفكر الجزائري مالك بن نبي في كتابه (ميلاد مجتمع) مؤكداً على قيمة الفكرة للحضارة "لا يُقاس غنى المجتمع بكمية ما يملك من أشياء، بل بمقدار ما يملك من أفكار، ولقد يحدث أن تلم بالمجتمع ظروف أليمة، كأن يحدث فيضان أو تقع حرب، فتمحو فيه (عالم الأشياء) محواً كاملاً، أو تفقده إلى حين ميزة السيطرة عليه، فإذا حدث في الوقت ذاته أن قد المجتمع السيطرة على (عالم الأفكار) كان الخرابُ ماحقاً، أمّا إذا استطاع أن ينقذ أفكاره، فإنّه يكون فقد أنقذ كل شيء، إذ إنّه يستطيع أن يُعيد بناء (عالم الأشياء)". وقد أشار مالك بن نبي إلى ألمانيا كمثال عندما مرّت بتلك الظروف ذاتها أثناء الحرب العالمية الثانية، فدمّرت الحرب فيها (عالم الأشياء) تدميراً شبه كامل، ولكنها سرعان ما أعادت بناء كل شيء، بفضل رصيدها من (عالم الأفكار)، الذي مكّنها من امتلاك الفكرة الحضارية، فحافظت بها على وجودها وديمومتها وتقدمها كأمة وحضارة.
عالم الأفكار الذي كتب عنه مالك بن نبي هو الذي يُميز بين الأمم السائرة في قافلة الحضارة والمُتخلّفة عنها، فالأُمم المُتقدمة تمتلك الفكرة الحضارية التي تُحوّل ثرواتها البشرية والطبيعية إلى مشروع حضاري، بخلاف الأمم المُتخلّفة التي لا تمتلك الفكرة الحضارية التي تعجز عن تحويل ثرواتها البشرية والطبيعية إلى مشروع حضاري. فأي حضارة بشرية بدايتها فكرة مُوحىَ بها في قلب نبي، أو فكرة مُلهَمة في عقل عبقري، فيوقن بها ثُلة من الثوار الأحرار، ويسعوْن بها مُبشّرين الناس، حتى إذا ما آمنوا بها تحوّلت الفكرة إلى روحٍ تسري في جسد الأمة، فيصبح لها مشروعٌ تحمله يُفجّر طاقاتها، وهدفُ تسعى إليه يشحذ هممها، وطريقٌ تسير فيه يُحدد بوصلتها، ومنهاجٌ يضيء دربها ويُنير وعيها. وتصّهر الأمة في بوتقة واحدة تُذيب ما عندهم من أنانية وفردية وانتهازية، وتستبدلها بقيم الإيثار والتضحية والوطنية، ويدرك كل شخص فيها واجبة فيؤديه دون تقصير، ويعرف حقه فيأخذه دون تجاوز.
الفكرة هي أصل وبداية كل نهضة حضارية، وبغيابها لا تقوم الحضارة الإنسانية، والتاريخ مليء بشواهد تؤكد ذلك، فقد كان المغول قوة بشرية وعسكرية كاسحة، سيطرت على معظم آسيا من الصين شرقاً إلى الشام غرباً في فترة وجيزة، جمعوا خلالها كميات هائلة من الغنائم والثروات (الأشياء)، ولكنها لم تمتلك الفكرة الحضارية (الأفكار) أو مشروع النهضة الحضاري، ولذلك لم نسمع أبداً عن (الحضارة المغولية)، بل الذي حدث هو العكس، فقد ذابوا في حضارات الأُمم التي غزوها وهزموها، لا سيما الحضارة الإسلامية، فرغم هزيمتها كدولة وانهيار نظامها السياسي (الخلافة العباسية)، فقد امتلكت كأُمّة الفكرة الحضارية، المُتخذة من جذوة الإسلام القبس الذي يُضيء لها الطريق ويهديها سواء السبيل، فبقيت الفكرة حتى بعد زوال دولة الخلافة وانسحاب جيوشها من أرجاء الأرض، فوصلت الحضارة الإسلامية كدين وثقافة إلى أمم وشعوب لم تطأها أقدام المجاهدين الفاتحين على الإطلاق، هذا القانون ساري المفعول في كل الأزمنة وعلى كل الجماعات والتجمعات البشرية.
حركات التحرير الوطنية هي إحدى هذه الجماعات أو التجمعات البشرية التي يسري عليها مفعول قانون عالمي الأشياء والأفكار لمالك بن نبي، وحركة الجهاد الإسلامي في فلسطين كنموذج امتلكت (عالم الأفكار) قبل أن تمتلك (عالم الأشياء)، ففي البدء كانت الفكرة الأصل والأساس في نشأة الحركة ومشروع الجهاد، ويؤكد هذه الحقيقة مؤسس الحركة وأمينها العام الأول الشهيد المفكر فتحي الشقاقي بقوله : "مع نهاية السبعينيات كان الحوار الفكري يتحوّل إلى مناخ سياسي تنبثق عنه نواة تنظيمية اندفعت لاحقاً باتجاه فلسطين المُحتلة لأجل بناء الحركة الإسلامية الثورية المُحاطة بالجماهير الواعية المُتحمسة لخلاص الذات والوطن تحت راية الإسلام" ووضح الشهيد الشقاقي ما أبدعه الحوار الفكري من حل الإشكالية بوجود حركة إسلامية لا تتبنى الجهاد في فلسطين ولا تعتبر فلسطين قضيتها المركزية، ووجود حركة وطنية تستبعد الإسلام من فكرها السياسي ونظريتها الثورية ومحتواها الأيديولوجي، فجاء الحل في فكرة الجهاد الإسلامي التي جمعت بين الإسلام كمنطلق ومرجعية وفلسطين كهدف وقضية، والجهاد كوسيلة وتربية.
فكرة الجهاد الإسلامي لم تكن مُجرّد استعجال في الذهاب نحو الجهاد المسلح لتحرير فلسطين تحت راية الإسلام، كما لم تكن مُجرّد حماسة شباب يتوقون للجهاد والاستشهاد في سبيل الله، فهي قبل ذلك رؤية فكرية انبثق عنها مشروع نهضوي لتحرير الإنسان والأرض، الجهاد والمقاومة وسيلته وجوهره، وهذا ما يؤكده صاحب الفكرة والرؤية والمشروع، ومتخذ قرار البدء بالثورة والجهاد، الشهيد المُفكر فتحي الشقاقي قائلاً: " لا شك أنَّ طرح مسألة مقاومة المُحتل دون إرجاء (الجهاد الآن) كان فارقاً أساسياً بين حركة الجهاد الإسلامي في فلسطين وبين الإخوان المسلمين، ولكن هذه المسألة انبثقت من فهم متميز لدينا حول علاقة الإسلام وفلسطين... هذا الفهم والرؤية انبثق أيضاً من فهم متميز للقرآن الكريم، والإسلام نفسه، ولحركة التاريخ والواقع، أي أنّ نقطة الانطلاق الحقيقية هي التمايز في الرؤية والمنهج أصلاً.
وحركة الجهاد الإسلامي ليست مُجرد مجموعات عسكرية مُقاتلة، وإن كان القتال جوهرها ومبرر وجودها، فقد نهضت الحركة لقتال العدو وما دون ذلك مجرد هوامش كما قال مؤسس الحركة ومُبدع الفكرة، ولكنه أكد على أولوية الفكرة على الطلقة، وأفضلية الرؤية على التنظيم، فقال: "حركة الجهاد الإسلامي ليست مجرد مجموعات عسكرية مُقاتلة كما تصوّر أو سألنا كثيرون، ولكنها إضافة إلى ذلك، وربما قبل ذلك رؤية مُتجددة في العمل الإسلامي، ورؤية منهجية تحدد بوضوح ووعي فهمها للإسلام وللتاريخ الإسلامي ولحركة التاريخ... وهي إسهام فكري مُتجدد على الساحة الإسلامية عامة والساحة الفلسطينية خاصة". هذا الإسهام الفكري عززه الشقاقي بإعادة استلهام تجارب القسام والبنا والخميني لصياغة النظرية الثورية الإسلامية، وإعادة قراءة فكر مالك بن نبي وسيد قطب وعلي شريعتي لاستنباط شرطي النهضة الذاتي والموضوعي، والنظرة النقدية للحركة الإسلامية فانتقد بعض أجنحتها المُنغلقة على ذاتها، والمُعادية للآخرين، والعاجزة عن فهم نفسها وغيرها وعصرها، وكان في صُلب اجتهاده الفكري شعار الحركة المركزي: القضية الفلسطينية هي القضية المركزية للحركة الإسلامية والأمة الإسلامية.
هذه الرؤية المُتجددة المنهجية أكدها الشهيد الشقاقي في اسهاماته واجتهاداته الفكرية التي تناولت قضايا فكرية وسياسية عديدة منها: الإنسان كموضوع وأداة ومحور التغيير، والمرأة كمشاركة في النضال الاجتماعي والكفاح الوطني بعيداً عن التطرفين الديني والعلماني، والتراث كمنطلق للتجاوز والتجديد بعيداً عن الرفض والتقديس، والتاريخ وضرورة فهمه لامتلاك الحاضر والمستقبل، والثورة كمحصلة لمعادلة الإيمان والوعي، والحرية المرتبطة بتفكيك منظومتي التطرف الديني والاستبداد السياسي، والتجديد الذي يسبقه فتح باب الاجتهاد الديني والإبداع الفكري، والوحدة من خلال التعدد إسلامياً ووطنياً، والتربية من خلال المواجهة في علاقة جدلية بين الجهاد والهداية، والسلفية بمفهوم العودة إلى النبع الصافي لنشرب من القرآن والسنة وليس بمفهومها المُتخلّف عندما نشرب من النبع المُلوّث الذي نفث فيه قرن الشيطان، والمنهجية في التفكير والعمل كنتاج لفهم الإسلام والتاريخ والواقع، والثقافة التي تُحرّض على المقاومة وتمنع الانكسار، والفكر الديني باعتباره فهماً بشرياً للدين وليس الدين نفسه، وفقه الأولويات كي لا نُقدم صراعاتنا الداخلية الثانوية على صراعنا المركزي مع الكيان الصهيوني، وهوية الصراع في بُعديه الوطني كمشروع تحرر وطني والديني كمشروع إسلامي مُعاصر وتكامل الانتماء للوطن كجماعة وطنية وللدين كأمة إسلامية.
واستمراراً على نفس النهج، وتأكيداً على أهمية الفكرة للحركة كتب خليفة الشهيد الشقاقي الأمين العام الثاني للحركة الراحل المجاهد رمضان شلّح الوثيقة الفكرية للحركة بعنوان (الأُسس والمفاهيم الإسلامية)، لتكون دستور الحركة الفكري، جاء في مقدمتها: "انطلقت الحركة في رؤيتها منذ نشأتها من الفكرة الإسلامية، وخصوصية علاقة فلسطين بالإسلام، فكانت سبّاقة في طرح رؤيتها حول الصراع على فلسطين، بأبعاده العقدية والتاريخية والواقعية". وكي لا تقع الحركة في وهم امتلاك الحقيقة المُطلقة كمدخل للتكفير والعنف، فقد كتب يقول : "لا تزعم الحركة أنَّ هذه الوثيقة تُعبّر عن الحقيقة النهائية أو خاتمة فهمها للإسلام، بل هي اجتهاد متواضع في زمن الصراع على الإسلام". ورفض زعم أي تيار إسلامي بأنه المُمثل الوحيد للإسلام أو (أهل السنة والجماعة)، وأن تدعي أي حركة إسلامية أنها جماعة المسلمين، بل هي جماعة من المسلمين فيها الصواب والخطأ، ودحض عقيدة الفرقة الناجية وشعب الله المختار باعتبار ذلك مدخل للاستعلاء والعنصرية والتكفير.
إذنْ في البدء كانت الفكرة نواة لأي مشروع للنهضة، وبذرة لأي مشروع وطني للتحرير، ونبته لأي مشروع ثوري للمقاومة... في تاريخ نهضات الأُمم وثورات التحرير وحركات المقاومة، وأي فصل للفكرة عن حركات النهضة والتحرير والمقاومة سيكون بمثابة فصل الروح عن الجسد، فتُصبح تلك الحركات مُجرد جثث وهامدة بلا روح تُحييها، وأجهزة ساكنة بلا وقود يُحرّكها. وتكون أشبه بالسفينة الفاقدة لدفتها، السائرة في ظُلمات بحرٍ لُجيً يغشاها الموج من كل اتجاه، فتسير بغير هُدى، وتُسافر بدون هدف، وتُبحر بدون بوصلة... وعندئذٍ سيؤدي فصل الطلقة عن الفكرة، وفصم البندقية عن الرؤية، وعزل الجهاد عن المنهج... إلى انحراف الطلقة، وزيغ البندقية، وتبديد الجهاد... ولتجنّب ذلك لا مناص من جعل الفكرة حاضرة في كل المراحل، ليصبح شعارنا (في كل المراحل كانت ولا زالت الفكرة).