بقلم/ محمد رمضان أبو ندى
منذ سنوات ونحن نرى تراجعاً في الرؤى السياسية والفكرية في وطننا الكبير فلسطين، وحالة الجدل تزداد في ظل الصراع الشرس الذي يدور في محيطنا الإقليمي. كانت فلسطين دوماً محط الأنظار ببعدها الرسالي والحضاري، حيث أنها القبلة الأولى لأمتنا وقبلة أمم من قبلنا، وهي محط أنبياء الله على مدار التاريخ، ومسرى القداسة والتاريخ، واستناداً لهذا التاريخ الرسالي والحضاري اكتسبت هذه البقعة المباركة أهميتها، والتي جعلتها مركزاً للصراع الديني والحضاري والكوني، فهي لم تحظ على مدار تاريخها بهدوء، بل بقيت محطة للصراع بكل أبعاده فمن الحروب الصليبية، ومروراً بالاحتلال البريطاني بعد سقوط الخلافة العثمانية، ومن ثم زرع هذا الكيان المسخ على تراب فلسطين بمؤامرة كونية شارك فيها كل لقطاء الأرض.
ليس صدفةً أن جعل القدر الإلهي فلسطين أرض رباط وجهاد وآية من قرآن الله، والأرض التي بارك الله فيها للعالمين، فخاصية فلسطين لم تحظ بها كل بقاع الأرض قاطبة. فمن هذا المنطلق ومن هذا الفهم لفلسطين، نستطيع أن نقرأ فلسطين اليوم، وموقعها في عالم السياسة والاحتراب الممتد في أمتنا، لوضعها في المكان المناسب لمقامها الديني والفكري والسياسي حيث أراد الله لها لا كما يريدها الأعداء وساسة الغرف المظلمة.
وأهمية هذا الحديث لأن الإرادات البشرية الجاحدة بجهلها، أكثرت النيل من قامتها في ظل هذا الإرث الرسالي الكبير. فاليوم فلسطين توضع في الخانات الضيقة وفي الحسابات الأضيق وللرهانات الصغيرة. توضع قامتها الكبيرة للاجتهاد السياسي دون مراعاة بعدها العقائدي والحضاري، الذي جعل لها خارطة تتجاوز حدود الزمان والمكان، ففلسطين تتجاوز أرضها وشعبها إلى كل العالم، وتتجاوز زمانها لكل التاريخ البشري فهي آية الإسراء الأزلية، فمن أراد الحديث عن فلسطين فهذا هو الطريق، وليس زواريب السياسة الضيقة فهي المنبر الكبير والشاهد الأول والأخير.
وهي وحدها التي ترسم جداريتها الفكرية والحضارية حيث أراد القرآن لها، هي ليس كغيرها، هي ليس ملك لمن دونها، وإنما لعباد الله الصالحين دون غيرهم، وهي ليست كباقي بقاع العالم تحكمها حدود سياسية ضيقة، أو تخضع لاجتهادات رجالها فمعادلتها إلهية صرفة، فوضعها في قفص الاجتهادات الصغيرة والنظريات الحيادية، لا ينسجم مع عالميتها وحضاريتها ورساليتها، فهي سيدة العواصم وحاميتها، وهي التي تطوف بفكرها في كل الأرجاء وهي التي تترجل في كل البقاع بمحوريتها التي يلتف العالم حولها، فهي ليست وديعة سلطة أو حزب يقرر قرارها، وإنما هي الصوت الأكبر الذي يقرر، وهي صوت القرآن الذي ندور في رحاه، فمن هنا مبعث كبريائها، وهي تدور بعالميتها بحثاً عن كل صوت ينادي لبيك فلسطين، ويصرخ الموت لإسرائيل، وتدور بأخلاقها وهى تمسح دموع المقهورين والمستضعفين، فقرآنيتها تحول بينها وبين الصمت على الظلم ونصرة الظالمين، والتنكر للدماء الزكية والمستباحة في عواصم المقاومة والكرامة ورفض الإستبداد والعربدة الصهيوأمريكية. فلسطين هي الأم الحانية وهي السيدة العظمى التي يجب أن يبرها الجميع، وهي التي يجب أن يمتلأ قلبها عبيراً وريحاناً لتنثره على رؤوس الملايين من شهداء الواجب المقدس، الذين يمثلون الجدار الأخير والذين يمثلون صرخة الحق بين ضفاف الوهن والعجز، فبشريات الدم التي تتسربل به ملامح الصعود لبوابات المجد والريادة تتهلل في محياك اليوم قدس الأقداس.
فأنت المنارة الكبيرة التي تخط للعابرين طريق الكرامة بلغة القهر التي تصنع النصر، ولغة الدم التي تهزم السيف، ولغة المظلومية التي تصنع الكبرياء، هذا وعيك القرآني الكبير وصوتك في التاريخ المتيم بالعشق للعالم الأجمل، ليتسلل إلينا من طيف الأخدود وفتية الكهف وبدر وكربلاء وأحراش يعبد وسفينة اليبس التي تجري بهم في موج كالجبال بعين الله ومعيته.
ستبقى كل حواري ترابك المقدس أنشودة وقصة تُرَتًّل في التاريخ، وستبقى قبلة الأحرار التي يدور في فلكها عباد وعد الله، وسيبقى جرح شهدائك هو الدم الذي يستنهض الملايين في ضواحي هذا العالم، فأنت قانون مرحلة سيحاكم كل المنحرفين عن مركز البوصلة الكبرى وامتدادها المرابط في كل أرجاء وطننا الإسلامي الكبير دفاعاً عن آية الإسراء (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ۚ ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ).