بقلم: د. وليد القططي
عضو المكتب السياسي لحركة الجهاد الإسلامي في فلسطين
الآخر هو الطرف المُقابل للذات، فكل ما عدا الأنا، وكل ما ليس نحن هو آخر، وهو المفهوم الجماعي للآخر في صوره العديدة مثل: الجماعة الوطنية كالشعب الفلسطيني، والجماعة القومية كالأمة العربية، والجماعة الدينية كالأمة الإسلامية، أو في صورة حزب سياسي، أو طائفة مذهبية، أو جماعة عرقية، ورؤية الثقافات للآخر تعتمد على نظريتين: هما رفض الآخر وتقبل الآخر، وهذا يحتاج إلى شيء من التوضيح لنصل إلى رؤية الآخر في الفكر السياسي الفلسطيني لا سيما الإسلامي.
ثقافة رفض الآخر أنكرها القرآن الكريم من خلال استنكار خصائصها التي تبدأ بتضخيم الذات كما فعل فرعون بقوله " أَنَا رَبّكُمْ الْأَعْلَى"، فلم يرَ غير رأيه وزعم امتلاكه الحقيقة المُطلقة " مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَىٰ وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ"، وإنكار وجود الآخر " أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ"، واحتقار الآخر بسبب الجنس أو اللون أو العرق كما فعل إبليس عندما رفض أمر الله تعالى بالسجود لآدم مُعللاً ذلك بقوله " أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ"، ومآلات ذلك التخلّص من الآخر المختلف كما حدث مع أصحاب الأخدود عندما تخلّص منهم النظام الحاكم بسبب إيمانهم بالله فقط " وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ". ومن سمات أصحاب هذه الثقافة أنهم يتحدثون دائماً عن المُطلقات فالأمور إما خير مطلق أو شر مُطلق، والناس إما صديقٌ مُطلق أو عدوٌ مطلق، فمن ليس معنا فهو ضدنا. كما أنهم يتحدثون عن المقدسات، فما يصدر عن الذات إيمانُ ومُقدس، وكل ما يصدر عن الآخر كفرُ ومدنس. وكذلك يركزون على الذات لدرجة التضخيم، ويتجاهلون الآخر لدرجة التحقير، وخطابهم باتجاه واحد من المتحدث إلى المُتلقي بدون حوار حقيقي بين طرفين متساويين.
ثقافة رفض الآخر موجودة بوضوح عند الديانة اليهودية والأيديولوجية الصهيونية، فاليهودية تُسمي غير اليهود (جويم) بمعنى الغريب والغير، ويتضمن مفهوماً سلبياً ونظرة دونية فيها احتقار لغير اليهود، والتوراة المُزيفة تجعل الذات اليهودية مُقدسة انطلاقاً من فكرة الاختيار الإلهي لبني إسرائيل فهم شعب الله المختار ودونهم شعوب مُدنّسة مهمتها خدمة الشعب المقدس، والتلمود عزز هذه الفكرة العنصرية الاستعلائية، والأيديولوجية الصهيونية تؤكد على هذه المعتقدات التوراتية والتلمودية. كما تبرز هذه الثقافة بوضوح عند الكنيسة المسيحية والحضارة الغربية، فالمسيحية كديانة ترتكز على المحبة في العلاقات بين المسيحي وغير المسيحي، ومحبة الله ترتبط بمحبة الإنسان الذي هو أخ لأخيه الإنسان، ولكن الكنيسة استدعت صوراً نمطية مزيفة للإسلام لشيطنة المسلمين، الذي احتل الأرض المسيحية، وقدّم ديناً بديلاً عن الدين المسيحي، والثقافتان الدينية والعلمانية الغربية لا تعترفان بالإسلام كحضارة ودين سماوي.
ثقافة رفض الآخر تظهر في الإطار الإسلامي والعربي والفلسطيني من خلال ثقافتي التكفير والتخوين، فالتكفير في الدائرة الإسلامية موجود، فتكفير المسلم عندما يكون بخلاف الضوابط الشرعية، ونتيجة لفهم خاطئ للإسلام، انطلاقاً من رؤية مشوّهة للذات الجماعية الدينية عندما تتوهم أنها جماعة المسلمين، وغيرهم خارج الإسلام وكافر، كما كانت بعض الأنظمة العربية الحاكمة التي تُعلّق يافطات إسلامية تجعل مؤسساتها الدينية تُطلق أحكام التكفير على معارضيها السياسيين، وكما كانت بعض أجنحة الحركة الإسلامية الفلسطينية تصف الوطنيين بأنهم كفار.
والتخوين في الدائرة الوطنية موجود، فالتخوين الوطني عندما يكون بخلاف الضوابط القانونية والوطنية، ونتيجة لفهم خاطئ للوطنية، انطلاقاً من رؤية مشوّهة للذات الجماعية الوطنية، عندما توهم نفسها أنها الجماعة الوطنية الوحيدة الممثلة للوطن، وغيرهم خارج الدائرة الوطنية وخائن، كما كانت ولا زالت الأنظمة العربية الحاكمة تصف معارضيها السياسيين بأنهم خونة، وكما كانت بعض أجنحة الحركة الوطنية الفلسطينية تصف الإسلاميين بأنهم خونة.
ثقافة تقبّل الآخر أثبتها القرآن الكريم من خلال توضيح التصور الإسلامي للآخر الذي يصب في اتجاه تقبله والتعايش السلمي معه، من خلال تأكيد أن الناس جميعاً يشتركون في الطبيعة الإنسانية المخلوقة من تراب "فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ"، ونفخة من روح الله "وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي"، والناس جميعاً مشتركون في الكرامة الإنسانية "وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ"، والناس مختلفون بحكم إلهي "وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ"، والناس مطالبون بالبحث عن القواسم المشتركة بينهم والالتقاء عليها "قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ"، والإسلام يدعونا إلى توسيع دائرة التعايش السلمي بين المسلمين وغيرهم، والتعامل بالبر والقسط معهم "أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ"، ودعا إلى التمييز بين غير المسلمين "لَيْسُوا سَوَاءً مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ"، والتعامل بالعدل معهم "وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا"، ولم يُفرض الجهاد لإكراه الناس على اعتناق الإسلام " لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ"، ولكن لرد العدوان، ورفع الظلم، وانقاذ المستضعفين، ومنع الفتنة، وإزالة العوائق أمام الدعوة.
هذا التصور الإسلامي للآخر أنتج حضارة إسلامية تتقبل الآخر وتتعايش مع المختلف، ولذلك حددت العدو الذي يجب محاربته بطريقة مضبوطة من خلال قوله تعالى: " إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَىٰ إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ" فالمحدد الأول للعدو ديني (القتال في الدين)، والثاني وطني (احتلال الوطن)، والثالث سياسي (التحالف مع العدو)، وما دون هذه الأصناف الثلاثة ليس عدواً، فقد يكون محايداً أو حتى صديقاً، وبناء على هذا المفهوم استنبط الفكر السياسي – الوطني والإسلامي- رؤيته لليهودي، فقد جاء في الميثاق الوطني الفلسطيني أنَّ "اليهود الذين يقيمون إقامة عادية في فلسطين حتى بدء الغزو الصهيوني لها يُعتبرون فلسطينيين".
والوثيقة السياسية لحماس تؤكد "أنَّ الصراع مع المشروع الصهيوني ليس صراعاً مع اليهود بسبب ديانتهم، وحماس لا تخوض صراعاً ضد اليهود لكونهم يهوداً، إنما تخوض صراعاً ضد الصهاينة المُحتلين المعتدين"، والوثيقة السياسية لحركة الجهاد الإسلامي في فلسطين تؤكد أن "كل يهودي خارج هذا الكيان، وأينما كان وجوده لا يوالي (إسرائيل) ولا يساندها في اغتصابها لأرضنا وحقوقنا، ولا يعادينا، لا نعتبره عدواً لنا"، وقد قال المفكر الشهيد فتحي الشقاقي موضحاً ذلك "نحن لسنا ضد اليهود بأي حال من الأحوال، نحن ضد أن يتحوّل هؤلاء اليهود إلى قوة سياسية استعمارية مغتصبة لحقوقنا وأرضنا".
ثقافة تقبل الآخر في الإطار الوطني الفلسطيني تتمثل في نماذج عديدة، يُمكن اعتبار نموذج الجهاد الإسلامي ممثلاً واضحاً لها، وهذه الرؤية تتضح من خلال ابتعاد الحركة عن خطابي التكفير والتخوين كأبرز مداخل رفض الآخر تمهيداً لإقصائه ثم قتله، ومن خلال رؤية الحركة للآخر المختلف دينياً كالنصارى الفلسطينيين، أنهم إخوة في الوطن، وشركاء في التاريخ والمصير والحضارة، وقبول مشاركتهم في الحركة والنضال دون تغيير معتقدهم ودينهم (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ)، وعلى أساس مفهوم المواطنة في الدولة المسلمة التي تتسع للمسلمين وغير المسلمين كمجتمع واحد الناس فيه سواء إلا ما اقتضاه التميز الديني، ومن خلال رؤية الحركة للآخر المختلف فكرياً كالقوميين والعلمانيين والاشتراكيين، فترى إمكانية التعاون والتنسيق معهم وفق مفهوم الجبهة وعلى أرضية تحرير فلسطين ومعاداة الإمبريالية والصهيونية. ومن خلال رؤية الحركة للآخر المختلف سياسياً كالفصائل الفلسطينية، فترى الحركة أن العلاقات الوطنية يجب أن تقوم على أساس الاعتراف بالآخر الوطني، واحترام التباين في الرؤى والأهداف والوسائل، واللقاء على القواسم الوطنية المشتركة، وتعزيز الشراكة الوطنية في صنع القرار الوطني، واعتماد اسلوب الحوار الفكري والسياسي مع الكل الفلسطيني، ورفعت شعاراً واضحاً هو الوحدة من خلال التعدد، دورفض استخدام العنف على قاعدة توجيه كل البنادق ضد الاحتلال.