بقلم: خالد أبو حيط
قلت في مقالة سابقة («الأخبار»، 14 أيلول) إن الأمين العام لحركة «الجهاد الإسلامي في فلسطين»، زياد النخالة، سيربك الخطاب الفلسطيني النمطي الغارق في تدوير الزوايا وضبابية الألفاظ والصياغات الإنشائية في البيانات السياسية.
فالرجل لا يؤمن أصلاً بهذا «التشاطر» الإعلامي، ويرى فيه «تكاذباً» لا يحلّ مشكلة ولا يعالج أزمة، و«كذباً» على الشعب الفلسطيني الذي لا يحرّر أرضه إلا بالحقيقة وحدها.
ومَن تابع الخطاب الذي ألقاه النخالة، في السادس من الشهر الجاري، بمناسبة الذكرى الـ33 للانطلاقة الجهادية للحركة، سيدرك كم كان صريحاً وواضحاً وشفافاً في مجمل مواقفه، وبالأخصّ في ما يتعلّق باجتماع الأمناء العامين. بوضوح تام، أفصح الأمين العام لـ«الجهاد» عن الدافع وراء مشاركته في لقاء الأمناء العامين الذي انعقد في الثالث من أيلول/ سبتمبر الفائت بين رام الله وبيروت، في ردّ غير مباشر على التأويلات التي تناولت مشاركته في ذلك اللقاء لمزاً وهمزاً أحياناً وتصريحاً في أحيان أخرى.
قال: «لقد شاركنا في هذا اللقاء إيماناً منا بضرورة وحدة شعبنا، وضرورة وحدة الموقف الفلسطيني، في مواجهة ما يستهدف تصفية القضية الفلسطينية لمصلحة المشروع الصهيوني».
ثمّ حدّد الأسس والمنطلقات، ويمكنك القول الشروط، التي على أساسها اتخذت الحركة قراراً بالمشاركة والاستمرار فيها، وهي بلسانه: «سحب الاعتراف بالكيان الصهيوني، وإعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية، لتصبح الإطار الوطني الذي يمثل قوى الشعب الفلسطيني كافة، وإعلان أن المرحلة التي يعيشها شعبنا ما زالت مرحلة تحرّر وطني، وأن الأولوية هي للمقاومة، وإنهاء الوضع الراهن، وتحقيق الوحدة الوطنية على قاعدة برنامج وطني قائم على المقاومة بأشكالها كافة».
وفي ردّ مبطن على مقرّرات اجتماع تركيا بين «فتح» و«حماس»، قال: «إننا نضع في حواراتنا أولوية صياغة برنامج وطني مقاوم وواضح، ولا أولوية (لدينا) لأّي شيء آخر. إن القوى الفلسطينية لا تستطيع بحكم أحجامها أن تأخذنا إلى برنامج لا نعرف حدوده، ولا نعرف إلى أيّ مدى يمكنه أن يستمر في موقف المواجهة للمشروع الصهيوني».
يؤسّس النخالة موقفه على جملة من الحقائق التي لطالما أشار إليها في مناسبات عديدة، وأكدها في خطاب الانطلاقة هذا العام، وأهمّها أن الضفة المحتلة هي جوهر المشروع الصهيوني في فلسطين، وأن السعي وراء تسوية مع هذا الكيان هو جري وراء سراب ثَبت فشله طوال ربع القرن المنصرم، وتشير الوقائع كافة إلى استحالته، وأن أحداً لم يعرض على الشعب الفلسطيني أيّ مشاريع تسوية، وأن المشروع الوحيد الذي عُرض عليه هو «صفقة القرن» الذي يهدف إلى تصفية القضية الفلسطينية والقضاء على الشعب الفلسطيني.
مع ذلك، أكد استمرار الحركة في حضور اجتماع الأمناء العامين، من دون أن يعني ذلك التنازل عن أيّ من ثوابتها ومواقفها، بل فقط لإيمانها بأن «الوحدة الوطنية هي صمام الأمان لقضيتنا»، وبأن «الوحدة الحقيقية تقوم على قاعدة الاقتناع بضرورة مواجهة المشروع الصهيوني بكلّ السبل والوسائل المتاحة».
لم ينتظر النخالة اجتماع الأمناء العامين المقبل لكي يحدّد موقف حركته من مسألة الانتخابات التي تمّ التطرّق إليها في اجتماعات تركيا، فقال بوضوح إن «الجهاد الإسلامي» مستعدة لأن تشارك في انتخابات المجلس الوطني الفلسطيني «بشرط أن تكون هذه الانتخابات مفصولة عن انتخابات المجلس التشريعي».
وبخصوص انتخابات الأخير، قال بوضوح: «إن مجلساً تشريعياً يعترف بالعدو، ووفقاً لاتفاقات أوسلو، لن نكون جزءاً منه أو مشاركين فيه».
الخلاصة هنا أن «الجهاد» تؤكد تمسكها بموقفها الثابت بالقطع التامّ مع «أوسلو» وإفرازاتها كافة. فلا مشكلة لدى الحركة في المشاركة في «منظمة التحرير» بعد سحب اعترافها بالكيان الصهيوني، ولا مشكلة في المشاركة في أيّ انتخابات على ألّا تكون مرجعيتها «أوسلو».
لكن، قبل هذا وذاك، تُصرّ الحركة على «صياغة برنامج وطني يتناسب وحجم تضحيات شعبنا ونضالاته». والسؤال الآن: كيف ستتصرّف القوى الأخرى إزاء ما أعلنه النخالة بوضوح تام؟ هل تمضي في اجتماعاتها من دون توجيه دعوة إلى «الجهاد الإسلامي»؟ أم ستلغي هذه الاجتماعات وترى فيها لزوم ما لا يلزم بما أن التوافق بين «فتح» و«حماس» قد شقّ طريقه؟ أم تتجرّع مرارة أن تتحمّل مواقف «الجهاد» داخل القاعات؟
من شبه المؤكد أن أخذ المواقف التي أعلنها الأمين العام للحركة بالاعتبار سيؤدي إلى تغيير الاستراتيجية التي تمضي فيها هذه الاجتماعات، وهو ما يبدو بعيد المنال حتى اللحظة. مع ذلك، يُصرّ «أبو طارق» على أن يبقى الصوتَ الذي ينبّه من المضي وراء الوهم والسراب.
في الملف الإقليمي والدولي، لم يكن النخالة أقلّ وضوحاً، فهو يرى أن ما يجري اليوم هو «إعادة رسم التحالفات في المنطقة والعالم، بإشراف أميركي وقح، يستند إلى معايير القوة اللاأخلاقية التي تَميّزت بها الولايات المتحدة الأميركية منذ نشأتها».
أمّا مسألة التطبيع، فتأتي «في إطار إعادة ترتيب المنطقة، ولها هدف واحد وواضح، هو إدخال المنطقة العربية بتاريخها وحضارتها بيت الطاعة الإسرائيلي»، لافتاً بوضوح إلى أن «الجامعة العربية مشلولة، ولا تستطيع حتى أن تعيد قراءة قراراتها السابقة».
النخالة، وإذ يؤكّد تمسك الحركة بالنهج الذي أرساه الدكتور الشهيد فتحي الشقاقي، وما راكمه القائد السابق رمضان شلح، رحمهما الله تعالى، فإنه يؤكد تمسك الحركة بالمقاومة المسلحة سبيلاً وخياراً وحيداً يمكنه إنقاذ الوضع الفلسطيني المأزوم من أزمته، وأن كل رهان على غير المقاومة هو رهان على سراب وتسويق للأوهام.
قد يرى البعض أن خطاب الأمين العام لـ«الجهاد» كأنه لا يستجيب لتطورات الأوضاع والمستجدات الداخلية والإقليمية والدولية، لكن، أليست هذه هي التهمة الدائمة منذ نشأت الحركة؟ ألم تتردّد مثل هذه الاتهامات في محطات مفصلية كثيرة، فيما أثبتت الأيام أن التمسك بخيار المقاومة وسلاحها هو النهج الوحيد الذي أنتج انتصاراً حقيقياً أعاق المشروع الصهيوني ويمثّل له تهديداً وجودياً؟ ألم يكن واضحاً منذ البداية أن زياد النخالة لا ينتمي إلى الخطاب النمطي المهيمن على الساحة الفلسطينية، وأن له أسلوبه الخاص والمتفرّد الذي سيربك كثيراً من الحسابات والتكتيكات لمصلحة استراتيجية واضحة هي التمسّك بالمقاومة حتى التحرير الكامل، أيّاً تكن التحديات والظروف، ومن دون مواربة أو تشاطر؟