شمس نيوز/ ولاء فروانة
مع طلوع شمس النهار، يسارع فتية وشبان يستقلون عربات "كارو" ودراجات "توك توك" بالتوجه إلى شاطئ البحر، مصطحبين معهم "شوالات" فارغة، ومعدّات حفر يدوية. لا ينوي هؤلاء الاستجمام أو الصيد كما يفعل معظم المتوجهين إلى الشاطئ، لكنهم يستهدفون موردًا طبيعيًا من أكثر موارد قطاع غزة البيئية ندرة.
يبدأ الشُبان بتعبئة الشوالات برمال الشاطئ الخشنة الممزوجة بالصدف والمسماة علميًا "رمال السيليكا" أو "رمال الكوارتز"، ومن ثم يجرّونها إلى الطريق المعبد "شارع الرشيد"، ويضعونها على متن درجاتهم، وينطلقون مغادرين.
تتكرر تلك العملية بصورة شبه يومية خلال ساعات الصباح، حين يكون البحر خاليًا من المواطنين، ولا تشمل الرمال فقط، إذ يقدم بعض الشبان على اقتلاع وتكسير صخور من الشاطئ ونقلها، ويحدث ذلك في أكثر من موقع بدءًا من شاطئ مدينة رفح جنوبًا، وحتى شواطئ مدينة غزة، وشمال القطاع.
ويوضح الشاب إبراهيم عوض، أن تلك الرمال تستخدم في بعض مراحل البناء، خاصةً صناعة الطوب البلدي، الذي لا تزيد كلفة إنشاء الطوبة الواحدة منه عن شيكل فقط، وهو مبلغ أقل بنحو (50%) من ثمنه في حال تم شرائه من مصانع، لذلك توفر على أصحاب المنازل التي يتم تشييدها، خاصة إذا ما كانوا فقراء.
وأوضح العشريني عوض، أن ثمة طلبًا متزايدًا على هذه الرمال، فالبعضُ يستخدمها في أعمال القصارة، وآخرون يستخدمونها لغرض إنشاء ديكورات منزلية داخلية أو خارجية مع الصخور، لتزيين طرقات في حديقة المنزل، لاحتوائها على كريستالات زجاجية تعطي منظرًا جماليًا ولمعانًا، عند سقوط أشعة الشمس عليها.
ما هي رمال الشاطئ؟
ويؤكد أستاذ البيئة وعلوم الأرض في الجامعة الإسلامية بغزة د.محمد رمضان الأغا، أن رمال الشواطئ في قطاع غزة تعد من الرمال النادرة في العالم، الغنية بعناصرها المتعددة، ويطلق عليها اسم "رمال السيليكا" التي تشكل مادة السيلكون (80 إلى 90%) من تكوينها.
ويبين المختص بإدارة السواحل والشواطئ، أن "رمال السيليكا" هي صخور رملية بيضاء نقية، تحتوي على نسبة عالية من "السيلكا"، أو ثاني أوكسيد السيليكون (SiO2)، تقدر بنحو (99%)، وتتكون بشكل رئيسي من حبيبات معدن الكوارتز، وتحتوي على كمية قليلة من الشوائب والمعادن الثقيلة، مشيرًا إلى أن العوامل الطبيعية أسهمت بشكل كبير في عملية تنقية تلك الرمال وإزالة الشوائب منها.
وينوه الأغا إلى أن رمال الشواطئ في غزة تتميز باحتوائها على مواد ذوبانها بطيء جدًا، ما يعني أنها لا تتأثر بالأمواج والمياه، وتحتاج إلى آلاف السنوات كي تتجدد، "كل ذلك يعني أن تلك الرمال بحاجة إلى عملية إدارة مستدامة، تضمن أن ما يتم استهلاكه أقل، أو يساوي كمية التجدد".
مورد نادر
بينما يؤكد كلًا من د.أحمد حلس، رئيس المعهد الفلسطيني للبيئة والتنمية، والمحاضر في برنامج ماجستير علوم المياه والبيئة بجامعة الأزهر بغزة، والباحث في التنوع الحيوي والبيئي أيمن دردونة، أن رمال الشاطئ الخشنة المخلوطة بالصدف تعد نوعًا نادرًا من الرمال في غزة، وتتواجد في مساحةٍ ضيقةٍ بمحاذاة الشاطئ غرب القطاع، وهي مورد بيئي غير متجدد.
ويشير دردونة إلى أن لجوء البعض لنقل هذه الرمال بغرض إنشاء الطوب، أو استخدامها في ديكورات منزلية، أمر بالغ الخطورة، وله أضرار بيئية مركبة وخطيرة، فمن ناحية يؤدي ذلك إلى حدوث تآكل وجرف للشاطئ نتيجة انخفاض مستوى الرمال، ومع قلة التعويض الطبيعي يؤدي ذلك مستقبلًا لزحف مياه البحر عليها وغمرها، وهذا يؤدي إلى تدمير وتخريب أماكن الاصطياف والاستجمام، ويفقد بحر غزة ميزته كمتنفس، عوضًا عن تشويه منظره الجمالي.
ويؤكد دردونة أن هذه الرمال ذات المنظر الجمالي الخلاب، تعد جزءًا مهمًا جدًا من منظومة البيئة البحرية ووجودها يسهم في إحداث توازن بيئي طبيعي، ويعطي فرصةً لبقاء أنواع من الكائنات الحية، وفي مقدمتها السرطانات البرمائية "أبو جلمبو"، التي تعيش في جحورٍ على تلك الرمال، وتؤدي دورًا مهمًا في حفظ التوازن، بتخليصنا من جيف الكائنات البحرية التي يقذفها البحر، وتحدث خلخلة طبيعيةً في التربة الشاطئية عبر الاستمرار في إحداث الجحور، كما أن هذه السرطانات هي غذاء لكائنات برية وبحرية.
وتابع: "هناك أنواع من السلاحف البحرية النادرة تستريح على هذه الرمال التي تعد أيضًا مكانًا لاستراحة أنواعٍ من الطيور البحرية المهاجرة شتاءً، مثل النوارس البحرية، وموطنًا لعيش أنواع من الديدان البحرية التي هي مصدر غذاءٍ للأسماك، وتعمل كمصفاةٍ للبحر حيث تقذف الأمواج عند علوِّها أعشابًا بحريةً وصدفًا، ما يجعل الدورة البيئية متجددة بفضل هذه الرمال".
ويلفت الباحث في التنوع الحيوي والبيئي، كذلك إلى أهمية "رمال السيلكا" للصيادين، فعليها ترسو مراكبهم ويتم تجهيزها للانطلاق في رحلات صيد يومية، إضافةً لأنها مكان لإنشاء المرافئ البحرية، ولها أهمية اقتصادية وسياحية، حيث تنشأ عليها استراحات الاصطياف.
ويضيف دردونة: "شاطئ بحر قطاع غزة يعاني أزمة وكارثة كبيرة، بسبب تزايد حالة الانجراف والنحر الشاطئية عامًا بعد عام، نتيجة إنشاء الألسن البحرية، وهذا الأمر يتطلب التفكير في طرق لتعزيز الشاطئ ومنع انجرافه، والتصدي لتلك الظواهر العبثية، ومنع هذا الأمر فورًا".
استنزاف للبيئة البحرية
وبالعودة إلى رئيس المعهد الفلسطيني للبيئة والتنمية، فيرى أن البيئة البحرية في قطاع غزة منهكة ومُجهدة وتُستنزف بشكل دوري، بسبب ارتفاع عدد السكان، وغياب مفهوم التنمية المستدامة، وأيضًا إجراءات الاحتلال التي حددت مسافة الصيد بستة أميال، بشكل أوجد ظاهرة الصيد الجائر لتلبية احتياجات المواطنين الغذائية.
يقول د.حلس: "تلويث البيئة البحرية هو العامل الأشد خطورة حيث يضخ (21) مصرف صحي نحو (120) ألف لتر مكعب من المياه العادمة غير المعالجة أو المعالجة جزئيًا إلى البحر يوميًا"، مشيرًا إلى أن المياه العادمة حولت شاطئ البحر إلى مستنقع لقتل الكائنات البحرية ونقل الأمراض للمواطنين والمصطافين عليه، أو من خلال أكل الأسماك الملوثة بفعل النفايات الصلبة التي لا تتحلل وتتكسر إلى "ميكروبلاستيك" تتناولها الأسماك ثم الإنسان.
ويؤكد حلس أن بناء الموانئ بشكل غير مهني، يحجب الروافد القادمة من شواطئ الحبشة ودلتا الأنهار التي تزود الشاطئ بالموارد الطبيعية اللازمة، كما تتسبب الألسنة البحرية بانجراف تربة الشاطئ وتنامي ظاهرة النحر والتآكل الشاطئي.
ويوضح أن تآكل الشاطئ، يعني ازدياد المد البحري، ووصول مياه البحر شديدة الملوحة إلى الخزان الجوفي الذي يعاني من شح كبير، كما يؤثر سلبًا على التنوع الحيوي، فبعض الكائنات البحرية تفضل العيش في هذه البيئة كالسلاحف والنوارس، إلى جانب الغطاء النباتي الذي ينمو فيها.
ويلفت حلس إلى أن هذه التهديدات للبيئة البحرية يضاف إليها عمليات الاستنزاف الأخرى إما بسرقة الرمال أو الصخور، "وهذا يزيد الطين بلة ويفاقم المشكلة، بدلًا من إيجاد حلول لها" يعلق.
وأردف يقول: "دول العالم تثبت كتلًا خرسانية على الشواطئ بمشاريع تكلف ملايين الدولارات من أجل حمايتها، وتمنع التعدي على الرمال أو أي مورد آخر، وهذا لا يوجد في قطاع غزة، عدا عن ذلك، لا توجد إجراءات صارمة لحماية البيئة البحرية الموجودة والحفاظ عليها من السرقة".
مواطنون وصيادون رصدوا العديد من حالات تجريف ونقل رمال الشاطئ، حيث أفادت سلطة جودة البيئة على لسان مدير عام حماية البيئة بهاء الدين الأغا، بتلقيها شكاوى عديدة أخيرًا، تفيد بسرقة مواطنين لصخور من على جرف مخيم الشاطئ.
وذكر أن سلطة البيئة أوعزت للجهات التنفيذية ممثلة بالشرطة البحرية، ووزارة الاقتصاد، وبلدية غزة، بمنع أي تعدّي على رمال الشاطئ أو صخوره.
وينوه الأغا إلى أن سلطة جودة البيئة، تعمل بوصفها جهة رقابية محدودة الصلاحيات، إلى جانب دورها في توعية وإرشاد المواطنين، وتحاول باستمرارْ، حث الجهات المختصة على القيام بدورها في الحفاظ على البيئة، مؤكدًا أن القوانين تحظر استنزاف رمال الشواطئ أو أي موارد بيئية منها، إلا بإذنٍ من الجهات المختصة.
كميات محدودة
وتتواجد "رمال السيلكا" التي تتميز بخشونتها وكبر حباتها، في مسافةٍ محدودةٍ، تمتد من شارع الرشيد المُعبد شرقًا، وحتى بداية شاطئ البحر، بطولٍ لا يزيد عن (100) متر في بعض المناطق، ويضيق في مناطق أخرى ليصل إلى (30) مترًا فقط، وهي تختلف كليًا عن الرمال المتواجدة على الجهة المقابلة للشارع ذاته، فالأخيرة صفراء ناعمة وتعد جزءًا من منظومة البيئة البرية.
الشاب خالد عبد الحميد، انتهى لتوه من تعبئة دراجة "توك توك" يمتلكها بالرمال المذكورة، تمهيدًا لنقلها إلى أحد مواقع البناء في القطاع، هو يرى أن ما يفعله أمر طبيعي لا يخالف القانون، "فالرمال كثيرة وأخذ كميات محدودة منها لا يضر"، يقول.
ويلفت إلى أنه يبيع حمولة الدراجة مقابل (25) شيقلًا لأحد البنائِين، فهي توفر مصدر دخل له في ظل ارتفاع معدلات البطالة، وعدم توافر فرص عمل، موضحًا أنه ينوي الاستمرار في الحصول على الرمال كلما طُلبت منه، مطالبًا من يدعو لمنع هذا الأمر، بتوفير فرص عمل بديلة له ولغيره من الشبان.
ويعاني شاطئ غزة من وقف تجدد الرمال، فحركة الرمال الطبيعية في البحر تتجه من الجنوب إلى الشمال بفعل التيارات البحرية المستمرة، وإقامة موانئ أو ألسنة بحرية تمتد لمئات الأمتار في عمق المياه، وتتسبب باحتجاز الرمال ومنع تنقلها، ما يحدث عجزًا وفقرًا في الجهة الأخرى من اللسان البحري.
يؤدي ذلك لحدوث ظاهرة التآكل، وتقدم الأمواج لمسافاتٍ بعيدة، وتزداد الظاهرة عامًا بعد عام، خاصةً مع استمرار استنزاف الرمال، التي أصبح تجددها أمرًا مستحيلًا.
بناء غير آمن
في حين يقول المواطن أحمد عيسى، إنه لجأ لصنع طول بلدي من رمال الشاطئ، بعد أن جلب كمية من الرمال الممزوجة بالصدف، موضحا أنها وفرت علبيه 50% من كلفة البناء، كما استخدم جزء من الرمال في قصارة الجدران، وهي حسب ما أخبره البناء أفضل وأقوى من القصارة التقليدية.
وأكد أن كافة المنازل التي بنيت قبل عقود كانت من تلك الرمال، لذلك من الطبيعي أن يتواصل البناء بها، أما الطوب التقليدي، فلم يتم معرفته سوى حديثا.
ودعا إلى إنشاء مصانع متخصصة لهذا النوع من الطوب، الذي يخفض كلفة البناء، ويريح المواطنين، مستبعدا تأثير ذلك على البيئة، فالرمال كثير على حد تعبيره.
بينما يقول شاهين الشاعر مالك مصنع طوب جنوب القطاع، إن الطوب المصنوع من رمال الشاطئ، والذي يطلق عليه "طوب بلدي"، قد يكون اقل تكلفة من الطوب التقليدي، لكنه به عيوب كبيرة، أبرزها ثقل وزنه، وعدم احتوائه على الحصمة، وهي عنصر أساسي لتماسك الطوب وجزء مهم في عملية البناء.
وأشار إلى ان لجوء البعض لصناعة هذا النوع من الطوب في المنازل قد يشكل خطرا عليهم، بسبب ثقل وزنها، لذلك يجب أن يتم تدعيمها بالخرسانة، ولا يفضل بناء جدران مرتفعة منها، وأن يشرف مهندسون على البناء.
وأكد أن مصانع الطوب المرخصة تحصل على الرمل من محاجر حكومية، تخلص لإشراف جهات الاختصاص، خلافا للطوب البلدي الذي يصنع في منازل، والرمال التي تستخدم في صنعه يحصل عليها المواطنون بطرق غير شرعية.
قوانين غير مطبقة
وتحظر المادة (34) من قانون رقم (7) لسنة 1999م بشأن البيئة، "إجراء أي عمل يكون من شأنه المساس بخط المسار الطبيعي للشاطئ أو تعديله دخولاً في مياه البحر أو انحسارًا عنه، إلا بعد الحصول على الموافقة البيئية من الوزارة".
ووفقًا لما ورد في القانون ذاته، فكل من يخالف أحكام المادة (34) يعاقب بغرامةٍ ماليةٍ لا تقل عن ألف دينار أردني، ولا تزيد على خمسة آلاف دينار، أو ما يعادلها بالعملة المتداولة قانونًا، وبالحبس مدة لا تقل عن شهر ولا تزيد على ستة أشهر، أو بإحدى هاتين العقوبتين.
أما المادة (35) من نفس القانون فتلزم الوزارة بوضع القواعد والأنظمة اللازمة لمنع تلوث البيئة البحرية، وحفظها والسيطرة عليها من كل ما ينتج عن الأنشطة المختلفة التي تقع في المنطقة الاقتصادية الخالصة، أو الجرف القاري، أو قاع البحار، التي تخضع للولاية الفلسطينية.
وفي أغسطس/ آب الماضي، أصدرت سلطة جودة البيئة بيانًا تحذيريًا للمواطنين، استهدف كل من يقوم بسرقة صخور ورمال وزفزف الشاطئ، التي لها دور في تثبيت التربة، وحماية الشاطئ من التآكل والانجراف الخطير، الذي يتعرض له بصورة متسارعة، نتيجة تقدم مياه البحر تجاه اليابسة.
وتوعدت سلطة البيئة، بإحالة المخالفين والمعتدين على الشاطئ إلى القضاء، واتخاذ الإجراءات القانونية بحقهم.
ووفق دراسات أجرتها بلديات قطاع غزة وجهات مختصة، فإن التآكل والانجراف في تزايد عامًا بعد عام، وثمة ضرورة لإيجاد حلول مؤقتة، مع التركيز على جانب الدعم الاستراتيجي، والتواصل مع المانحين، لكن علاج هذه المشكلة يحتاج إلى عشرات ملايين الدولارات، لإنشاء مشاريع مستدامة تشكل حماية للشاطئ.
في حين تؤكد مصادر شرطية مطلعة بذل الجهود المطلوبة لمنع اللصوص من سرقة الرمال والصخور الشاطئية، وتسليم المخالفين للنيابة لأخذ المقتضى القانوني، "لكن طول الشاطئ، ووجود عشرات الطرق الفرعية يجعل تلك المهمة صعبة، فمن غير الممكن أن تضع الشرطة نقطة أو حاجز كل 100 متر، لكنها كثفت مؤخرا الرقابة ونجحت في منع بعض السرقات"، وفقًا للمصدر.