بقلم/ خالد الحروب
لنا أن نتخيل، بشكل إجمالي، ثلاثة مواقف للمثقف إزاء حدث أو سلطة أو استبداد يستوجب قولاً وموقفاً واضحاً: الأول، هو الرفض والمعارضة والمقاومة وهو الأكثر نبلاً وجرأة وانسجاماً مع دور المثقف، الثاني هو السكوت بسبب طغيان السلطة وجبروتها، أو لأسباب أقل من ذلك متعلقة بحسابات العيش والحياة ومسؤولياتها. يقف المثقف هنا على الحياد ظاهرياً، قد يعارض ضميرياً لكنه لا يستطيع ترجمة ما بداخله إلى فعل أو قول مُعلن. الثالث، هو المُنحاز للسلطة وهو موقف فيه تنويعات عدة، بعضها يقوم على تسويغات تحاول تقعيد الموقف المُنحاز على أسس سياسية أو تغييرية بعيدة المدى، أو فكرية ملتوية، وبعضها لا يقوم إلا على قاعدة نفاقية مطلقة للسلطة، يذهب معها أينما ذهبت.
تتوزع مواقف جزئية ورمادية بين وحول هذه المواقف الثلاثة المعْلَمية، حسب القضية المعنية، وحسب ما يستتبعه الموقف من أكلاف. المهم هنا هو الإشارة إلى أن شريحة المنافقين والأبواق، ضمن الموقف الثالث، والتي تذهب مع السلطة والسلطان أينما ذهب هي تحديداً موضوع هذه السطور. على ذلك، ليس هنا أي تعميمات غير مُنضبطة، ولا أي ادعاء لأي سلطة أخلاقية أو غيرها تبرر توزيع المواقع والأوصاف على الآخرين. كل ما هنالك تشبث مُبرر بحرية إبداء الرأي إزاء زبد المواقف والإعلام الذي يطفح في وجوهنا.
شريحة المنافقين والأبواق التي نحللها هنا تعرضت، وبسبب تبدلات الزمن والعالم والتكنولوجيا وثورة الإعلام، إلى طفرات شبه فجائية، وعبرت ما يمكن وصفه بـ "الداروينية الحذائية" وبها قطعت شوطاً مذهلاً تجاوز موقعها النفاقي التقليدي كما كنا نعرفه جميعا. الجديد الذي طرأ على هذه الشريحة المُنافقة والمعروفة تاريخياً هو تفوقها على ذاتها النفاقية ودخولها إلى طور جديد، يستند إلى آلية تلقف أفواهها لكل ما يبصقه الحكام من "حكم"، فتمضغها وتتلذذ بها ثم تعيد بصقها في وجوه الناس. الطفرة الداروينية الحذائية قدمت لنا، ثقافياً، وسوسيولوجياً، وإعلامياً، وسياسياً، كائنات مشوهة هي: "المثقف الحذاء"، و"الداعية الحذاء"، و"الإعلامي الحذاء"، و"الأكاديمي الحذاء"، و"السياسي الحذاء"، وغيرهم ممن ينتسبون إلى المرحلة "الحذائية" في التبعية والنفاق. أحد أهم المعالم المميزة لهذه الطفرة الجينية هو تحول هؤلاء من أبواق كانت تُستخدم دائماً من قبل السلطة لخدمتها وترويج خطابها، إلى أحذية يلبسها الحاكم ويدوس بها الآخرين، ثم تواصل دوس الآخرين آلياً حتى عندما يخلعها الحاكم، حيث تظل تشتغل من دون تفكير وطيلة الأربع وعشرين ساعة. أبواق الأمس كانت تنام في الليل مثلاً، تغيب أحياناً عن الفضاء العام، تختفي في بعض الأوقات، تسافر فلا نعلم عنها شيئا لبعض الوقت. أما أحذية اليوم وعلى رافعة الإعلام الاجتماعي المتواصل فإنها تظل تواصل شغلها الاستحذائي على مدار الساعة. لم يحدث في تاريخ النفاق العالمي أن تصدت شريحة من المنافقين لترويج خطابات ومقولات السلطة والاستبداد (والتطبيع الآن) بتواصل مُذهل وبعماء تام ومن دون كلل، إلى درجة تُحرج المُنافَقِ لهم أنفسهم! هنا بالضبط يكمن إبداع الداروينية الحذائية!
من منظور بيولوجي أميبي، تطور هؤلاء جميعاً (أي "المثقف الحذاء" وأشباهه) وتناسلوا من عفن الصيغ التقليدية المعروفة تاريخياً والتي كان قد أُطلق عليها نعوتاً مختلفة مثل أبواق الحكام وشعراء البلاط وعلماء السلطان، وكانت دوماً في موقع الاسترذال والاحتقار في كل الثقافات والأزمان. هنا محاولة لرصد بعض سمات وجوانب "المثقف الحذاء" والتأمل في التحولات التي شهدها هو وأشباهه انتقالاً من مرحلة النفاق التقليدية إلى مرحلة "الحذاء" المُدهشة التي نشهدها حاليا.
تمهيداً لذلك، وكهامش سريع والتزاماً بالأمانة العلمية، عليّ أن أقول إني مدين إلى حالتين صارختين (حذائياً) كانتا وراء "الوحي" بنحت مصطلح المثقف الحذاء، أو الداعية والإعلامي أو الأكاديمي الحذاء. الأولى تخص مذيعاً إماراتياً، جسّد نموذج "الإعلامي الحذاء" قولاً وفعلاً، حيث ظهر على شاشة التلفزيون وهو يحتضن نعلاً ويقول بالنص "لو افترضنا أن هذا النعل هو نعال سيدي صاحب السمو محمد بن زايد... فأنا سوف أقبّل هذا النعال" ثم يقوم بالفعل بتقبيل النعل على الشاشة مفتخراً ومنتشياً (والمقطع موجود على اليوتيوب لمن يريد رؤية مدى الانحطاط). أما الحالة الحذائية الثانية والصارخة فيجسدها "داعية حذاء" على شكل رجل دين أرعن صنعته الشاشة التلفزيونية المسيسة، وقد تجاوز تنعله واستحذاءه المتصهين كل حدود، دائراً مع السلطة حيث دارت، مُنكراً حتى أبجديات الحقوق والقيم والأخلاق والدين. الأمثلة والنماذج التي لفظتها في وجوهنا هذه الأميبيا النفاقية كثيرة جداً في وقتنا الراهن، لكنها انتشرت فجأة في طفرة بُثورية صادمة مع موجة التهافت التطبيعي الخليجي الرسمي على أقدام إسرائيل. هناك أسماء كثيرة سوف تتراكض في رؤوسنا جميعا، وكل اسم منها يبحث عن عنوان ونوع الحذاء الذي يقبع تحته.
من المهم القول أيضا إن بروز "الداروينية الحذائية" كان قد سبق مرحلة التطبيع وأحذيته، فقد كانت الثورات العربية قد كشفت لنا عن قوائم طويلة من الأحذية: مثقفين أو متثاقفين، دعاة، أكاديميين، إعلاميين، وغيرهم ممن وقفوا إلى جانب الاستبداد والأنظمة ضد الشعوب، وتجاوزت خطاباتهم النفاقية ما كان قد عُرف تاريخياً من أساليب وأنماط التملق والتبعية. وتفادياً للتعميم أو سوء الفهم، ومرة أخرى، ليس ثمة اتهام أو توصيف لكل من تبنى رأيا نقديا ضد هذه الثورة أو تلك، أو حتى من وقف ضد الربيع العربي برمته، بأنه منافق أو حذاء لهذا النظام أو ذاك الحاكم. على القطع لا. فهناك كثيرون كان لهم آراء حرة ليست مرتبطة بنظام هنا أو هناك. الفئة التي تتناولها هذه السطور هي تلك التي التصقت بالحكام الدمويين وتماهت مع الأنظمة المستبدة، وتفوقت على "النفاق المُعتاد" وانتقلت إلى مرحلة الحذاء.
التطور الدارويني الحذائي نشهده في شكل ومضامين وأداء بوق السلطان وعالم السلطان وقد تسارع على رافعة الإعلام الاجتماعي وشاشات التلفزة المُلقمة مالاً ومضموناً من قبل الحاكم. تكنولوجيا الإعلام وسرعته وآنيته فاقمت حالة التبعية والذوبان والانحطاط المعروفة به هذه الكائنات النفاقية، ونقلتها إلى حالة جديدة لها سماتها الخاصة التي تتجاوز بها الانحطاط المعروف. استلزم هذا التحول، أكاديمياً وبيولوجياً أيضاً، نحت مصطلح جديد يلتقط المرحلة المتفاقمة و"أبطالها" بما يسهل علينا جمعياً موضعتهم تحت الضوء ودراستهم عن قرب، وربما يفيدنا في هذه المهمة مصطلح "المثقف الحذاء"، و"الداعية الحذاء" و"الإعلامي الحذاء" (مع الإقرار هنا بالتجاوز المعرفي في استخدام مفردات مثقف، وداعية، وإعلامي لوصف من دخل هذه المرحلة، إذ الغالبية الكاسحة تستلزم استباق الوصف بـ "أشباه"، أي "أشباه مثقفين"، أشباه أكاديميين"... الخ، ذلك أن ثمة فرق كبير بين النعت والمنعوت هنا.
لكن لنتعمق أكثر ونحاول استكناه بعض سمات "المرحلة الحذائية" وافتراقها عن المراحل النفاقية السابقة والمعروفة تاريخياً. مثلاً، كيف يختلف "المثقف الحذاء" عن المثقف المنافق، أو "الإعلامي الحذاء" عن الإعلامي المنافق؟ يمكن هنا التأمل في أربع تمظهرات أولية، وقابلة للزيادة، تساعدنا في تتبع تحول مثقف أو داعية أو إعلامي أو أكاديمي من مرحلة النفاق العادي إلى مرحلة النفاق الحذائي، ومروره في تبدلات "الاستحذاء" و"التنعل" – أي تحوله كليا إلى نعل!
أولاً: العلاقة العضوية والاستشعارية مع قدم الحاكم
في المرحلة الحذائية الداروينية للنفاق تتطور لدى "المثقف الحذاء"، القريب دوماً من قدم الحاكم، خاصية استشعار دائمة تحاول التنبؤ باتجاه أي حركة لتلك القدم، بغية التحرك السريع والتموضع الآلي في نفس الاتجاه وبحيث يستقبل الحذاء قدم الحاكم بالسرعة والسلاسة المطلوبة. هناك فيلق من هذه الأحذية مرميٌّ على عتبات الحاكم وتستعر بينها حرب تنافس ضروس حول أكثرها استعداداً للانتعال من قبل قدمه، ولذلك هناك تحفز دائم ونشاط كبير ومزايدة حتى على الحاكم نفسه في ترويج عبقريته و"رؤيته" وسوى ذلك. التجسيد العملي لهذه العلاقة الاستشعارية التنبؤية نراه على شاشات التلفزيون وفي الإعلام الاجتماعي وعلى منصات مثل توتير والفيسبوك وانستغرام وغيرها. هنا الساحة الأهم والاشرس للاستنعال والاستحذاء، إذ يريد كل "مثقف حذاء" أن يركض إلى الأمام حاملاً قدم الحاكم ومسابقاً الآخرين ليظفر بالرضى والعطايا. وهذا يستلزم نشاطاً متواصلاً على تلك المنصات يصل الليل بالنهار، وكما أن هذه المنصات الإعلامية لم تكن مُتاحة "للمنافق التقليدي"، فإن العمل الشاق الذي تفرضه واقعة الإعلام الاجتماعي على "المثقف الحذاء" لم يواجهه "المثقف المنافق" في مراحله الداورينية السابقة.
ثانياً: "الاستحذاء" من وراء الحدود
ليس شرطاً أن يتواجد "المثقف الحذاء" قريباً من قدم الحكام فيزيائيا، ومرة أخرى بسبب ثورة الإعلام وما وفرته من إمكانيات هائلة للاستنعال والاستحذاء عن بعد. وهذه سمة أخرى تصف وتفرق "المثقف الحذاء" عن سابقيه من مثقفي النفاق. الآن وكما نشهد، هناك مثقفون أحذية عابرون للحدود، وقد يتواجدون في أكبر مدن العالم وأكثرها حرية من ناحية التفكير والتعبير، ومع ذلك هم مقيمون افتراضياً على عتبات الحاكم في كامل جهوزيتهم لقدمه المُنتظرة وبأمل انتعالهم. ليس مهما أن يُضاف تعريف جغرافي بعيد مثل "مقيم في واشنطن" أو "مقيم في باريس" أو مقيم في لندن"، بعد اسم "المثقف الحذاء"، لأنه عملياً وحذائياً ولحظياً مُنتعل من قبل حاكم هنا في شرقنا الحزين، يستلذ بانتعاله وانتعال من يشبهونه.
ثالثاً: الاستنقاع تحت قدم الحاكم
السمة الثالثة المُذهلة لـ "المثقف الحذاء" كما لأشباهه الآخرين من إعلاميين ودعاة وأكاديميين، هي التشبث الغريب بأقدام الحاكم من "لحظة تبلور الوعي الحذائي" النفاقي وحتى الممات، إلى درجة الوصول إلى حالة "الاستنقاع". يمكن للمرء أن يفهم (من دون أن يُقر أو يقبل) نفاق مثقف هنا أو أكاديمي هناك لفترة عابرة من الزمن، لتحسين أحواله أو لأي سبب من الأسباب. لكن أن تطول وتُستطال حقب النفاق، عقوداً وعقوداً حتى الممات، فهذا ينقل المنافق المعني إلى الطور الحذائي الاستنقاعي، حيث تنحل جينات وDNA قدم الحاكم في جينات "المثقف الحذاء" من طول الانتعال، وبالتالي لا يستطيع هذا "المثقف الحذاء" التخلي عن علاقة التلذذ السادي المعكوسة الناجمة عن دوس القدم السلطوية عليه وفي قلبه، فيستنقع تحتها متأبداً.
رابعاً: التفاهة الثقافية والمعرفية
ليس مطلوباً من "المثقف الحذاء" وأشباهه المنتمين إلى طور الدوارينية الاستحذائية أيّ ثقافة أو تعليم أو عمق أو معرفة حقيقية. ربما كان هذا أو بعضه من مستلزمات المثقف المنافق الكلاسيكي، لكن اليوم ومع امتطاء "المثقف الحذاء" لمنصات تويتر وسواه من وسائل إعلاء التافهين، فلا حاجة لأي من ذلك. كل الـ "سي في" المطلوب من "المثقف الحذاء" و"الإعلامي الحذاء" على وجه التخصيص هو امتلاك قاموس كبير من البذاءة والشتم، والقدرة على الكذب والتفوق فيه، وأولاً ودائماً الإبداع في إعلان الولاء المستديم على مدار الساعة لقدم الحاكم. أسماء براقة ومثقفون وإعلاميون ورؤساء تحرير صحف ومديرو معاهد بحثية أكاديمية و"مستشارون" ودعاة دين وقوائم طويلة من الأحذية الصارخة ليل نهار، نبحث في سجلها المعرفي أو "السي في" فلا نجد ما يُبهر، سوى الاندراج الذليل في سوق أحذية الحاكم.
هذه "بعض" وليس كل السمات التي يمكن أن نتأملها لفهم ظواهر الأحذية النفاقية المتفطرة في الفضاء العربي، والقائمة مفتوحة لإضافة سمات أخرى. كلها تنطبق على "الأكاديمي الحذاء" و"الداعية الحذاء" والإعلامي الحذاء" كما انطبقت على "المثقف الحذاء" الذي استخدمناه في النص كممثل لهذه الشرائح جميعاً. في حالنا العربي الراهن، هناك مئات من الحالات الحذائية يشغلها التنافس في ميدان التقرب المسعور إلى قدم الحاكم، ولن يكون صعباً على القارئ أن يغمض عينيه ويمرر أسماء كثيرة في ذهنه سوف تستدعيها قراءة هذه السطور، ويُصنفها حسب انتماءاتها الحذائية. علينا أن نراقب عن كثب هذه الطفرة الداروينية المفاجئة والصادمة التي أنتجت كائنات نفاقية ظننا أنّ نموّها توقف عند حدود بيولوجيا التملق المعروفة، والتي اعتاد التاريخ أن يتمخط عليها جانبا كلما سرد علينا حكاياتها، لكنها فاجأتنا بحدة الظهور. مزيدٌ من المراقبة حتى نعرف إن كان هناك مرحلة قادمة لهذه الكائنات تأخذها إلى ما هو أكثر هبوطاً من مستوى الحذاء!