بقلم/ عضو المكتب السياسي لحركة الجهاد الاسلامي في فلسطين أ. محمد حميد "أبوالحسن"
قيض لي أن ألتقي الشهيد القائد/ بهاء أبو العطا أبو سليم في نهاية تسعينيات القرن الماضي، ولم أدر أن عظمته كانت خَبْئَاً لا يعلمه إلا الله –عز وجل-، ولكن المحتم الذي لم يخفَ في حينه هو صدق ذلك الشاب اليافع المقبل في إيمانه بالله –عز وجل- ودينه، وقناعته بقضية الجهاد العادلة في فلسطين دون مساومات وإيمانه ويقينه الراسخ ووعيه العميق بالثورة الحية التي نَظَمَها المعلم الشهيد/ فتحي الشقاقي.
إن الشهيد متصلٌ بالشهادة، صادقٌ كصدق أبي إبراهيم في قوله:" لا تصدقوني إلا إذا رأيتموني شهيداً. كبر أبو سليم سناً وأزاح الدهر الستار على الجهوزية العالية التي تمتع بها شهيدنا القائد الذي امتلك الحافز الدائم للبذل والعطاء والقتال والنضال وتحدي رؤوس الاحتلال وسدنته، دون مهادنات أو تهاون. ولا عجب فهذه النتيجة الحتمية لصدق الشهيد المصدوق من الله تعالى. فكان استعداده للتضحية ترجماناً للروح الموضوعة على الراحة، ومحاكاةً لطاعة إسماعيل –عليه السلام- وجهاده حين أسلم أمره وروحه لله نزولاً عند أوامره. نزل شهيدنا أبو سليم عند أمر الله القائل:"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ"().
أبو سليم الناجي من أكثر من محاولة اغتيال خلال الحروب الماضية، لم يكن يعطِ الدنية في دينه ولا في جهاده، ولم تزده هذه الاستهدافات والمحاولات إلا مزيداً من العزم والإصرار على إحراج هذا الكيان، أتذكر عام 2012 في معركة السماء الزرقاء، تعرض شهيدنا لمحاولة اغتيال أصيب على إثرها وتم نقله إلى المستشفى الذي لم يمكث به سوى برهة يسيرة من الزمان ليعود بعدها مباشرةً ودون فواصل أو استراحات إلى غرفة العمليات ليصدر تعليماته المُنجّزة بقصف مكان تواجد قيادة الاحتلال في تل أبيب بصواريخ الفجر، متحدياً للاحتلال متقدماً لصفوف مجاهديه وأبناءه، في عرك رحى الحرب، وفي ظل الوضع الأمني الصعب. وأثناء تلك المحاولة حدثتني بعض صحبته أنه لم يبرح مكانه حتى استوثق من خروج جميع إخوانه.
وبجانب ما ذكرت في شخصية الشهيد القوية على الاحتلال المتحدية له حيث كان على جاهزية عالية على مدار الوقت، إلا أنه كان مثالاً للحِلم والقلب الواسع الذي جعل أفئدةً من الناس تهوي إلى حبه، لقلبه الواسع الحالم لإخوانه، وأذكر له عندما أساء بحقه أحد الإخوة إساءةً كبيرةً، صبر شهيدنا على ذلك رغم الجرح العميق الذي خلفته، لكن ما أصابني بالدهشة من هذا النموذج الجهادي ، هو إقدام الشهيد أبو سليم رحمه الله على مؤازرة هذا الأخ المسيء بحقه بعد أن مرت الأيام والسنون وقد وقع في كربٍ عظيمة وفي نائبةٍ قاصمة، فكان أول من حضر لمساندته وقدم ما يستطيع عليه من العون لهذا الأخ. .
ورغم ما بلغه الشهيد من مرتبةٍ عسكرية كبيرة، إلا أنه مثالٌ للتواضع والأدب الجم والكرم والشهامة، ولا أذكر ذلك على سبيل النثر، بل إني أعني التواضع بكافة تفاصيله ويرويه شباب سرايا القدس أفضل مني، وأعني الخلق والأدب على كماله، فقد كان منتقياً لألفاظه حافظاً لمكانة إخوانه صاداً السهام على ظهورهم في غيبتهم، ولا أبالغ إن قلت أنه قد قارب تحقيق المقصد الرسالي بحسن الخلق، ولم نشهد عليه سوى الكرم، يبذل مكرماً ضيفه دون إمساك، وقد بلغني من أحد الإخوة أنه كان يكرم كل صاحب عُسْرة دون أن يرده خائباً، فهو صاحب مروءة وشهامة عاليتين، نعم النصير ونعم المجيب، ناصراً لإخوانه مظلومين، وناصحاً لهم ظالمين.
والشهادة التي ألقى الله عليها والدالة على عظم هذا الشهيد، هو ما ظهر لي من اشتغال باله بقضية الأسرى، أثناء إشرافي على مؤسسة مهجة القدس للشهداء والأسرى، أعطى الشهيد عهداً أنه لن يترك الأسرى دون حراك عازماً على سلوك الطرق العسكرية لإطلاق سراحهم، وملتمساً الطرق السياسية بالتشاور مع الإخوة في فصائل المقاومة الأخرى المقدمة على عقد اتفاقات تبادل، وسلمناه خلال عملنا ملفاً كاملاً متضمناً أسماء الأسرى المحكوم عليهم بالمؤبد والأسرى ذوو المحكوميات العالية في سجون الاحتلال، ليكون الملف لديه حاضراً في جميع الساحات.
ارتحل شهيدنا القائد العسكري المنضبط بكل ما تحمله الكلمة من معنىً دون زيغٍ أو انحرافٍ أو تفلتٍ، ارتحل بصيتٍ من قبس النور الذي وعده الله الشهداء، صيتٍ مرتفع القدر ببركة الدم والشهادة، في عرس أسطوري في ساعاتٍ مباركاتٍ في أيام الهدي النبوي، تاركاً وراءه جيشاً من المجاهدين المؤمنين بما آمن به أبو سليم، المتسلحين بعزيمة فولاذية لا تكسرها آلة الحرب الغاشمة، ولا تهديدات الاحتلال، عزيمةٍ مستمدةٍ من الشجرة الطيبة المجاهدة التي غرسها شهيدٌ بارك استشهاده نبتها.
رحم الله الشهيد القائد وشهداء شعبنا رحمةً واسعة، وأدخلهم الفردوس الأعلى عند مليكٍ مقتدر.