كتب/ د. وليد القططي عضو المكتب السياسي لحركة الجهاد الإسلامي
غزا الأوروبيون الساحل الشرقي للعالم الجديد مطلع القرن السادس عشر الميلادي، وبعد قرن بدأوا بالاندفاع غرباً لاستيطان الغرب الأمريكي، وصاحب هذا الاندفاع السكاني ظاهرة رعاة البقر المعروفة بالإنجليزية (الكاوبوي)، وهم رجال أشداء ومحاربون قُدامى، يمتطون أحصنتهم القوية السريعة، ومُسلّحون بمسدسات وبنادق للدفاع عن القطيع وأنفسهم، ومع مرور الزمن تجاوزت مهنتهم كرعاة بقر إطارها الوظيفي، إلى إطار رمزي يدل على الغرب الأمريكي الجامح، والبطولة الأمريكية الخارقة، فذاعت سمعتهم كرجال أشداء وفرسان أقوياء، وشاعت عنهم حكايات عجيبة وأحداث مُثيرة، تراكمت في العقل الجمعي والوجدان الشعبي، لتصبح نبعاً لا يجف ومعيناً لا ينضب، نهل منه كُتّاب القصص ومؤلفو الروايات، تحوّل الكثير منها إلى أفلام سينمائية في القرن العشرين أنتجتها هوليود، وعُرفت باسم أفلام الكاوبوي، شكلّت بدورها نموذجاً للحياة الأمريكية النمطية، القائمة على فكرة الانطلاق الجسدي والفكري، نحو المغامرة والمجهول، بحثاً عن الثروة والخيال، وطلباً للقوة والمال، وقدّمت صورة مُكبّرة للرجولة الخارقة والبطولة الأسطورية، ورسمت صورة مقلوبة للحقيقة يُرى فيها الأشرار من الغزاة الأوروبيين أخياراً، والأخيار من السكان الأصليين الضحايا أشراراً.
أفلام رعاة البقر (الكاوبوي) رسمت ملامح الشخصية الأمريكية الفردية والجمعية، فصوّرت هويتها الفعلية والمُتخيّلة، وأهم ملامحها: الطبيعة الفردية النفعية، والنزعة الاستعمارية الاستعلائية، والروح الحربية الدموية، وهيمنة عُقدة التفوّق العرقي والثقافي العنصرية، والاعتقاد بأفضلية حضارة الأنجلو ساكسون البروتستانتية، وسيطرة فكرة التفويض الإلهي لإنقاذ البشرية، وامتلاك حق التضحية بالآخر لصالح الإنسانية، واحتكار دور المُخلّص للعالم، والإيمان بعقيدة أرض الميعاد التوراتية، واستحواذ حُلم امتلاك القوة والمال والجمال... فكانت هذه الملامح عصير فكر عنصري، وخلاصة تاريخ دموي، ثمارها المُرّة إبادة ملايين السكان الأصليين، أو ما سمّوهم تلفيقاً (الهنود الحمر)، واستعباد ملايين الزنوج الأفارقة، من الذين اصطادوهم وجلبوهم قسراً من بلادهم الأفريقية، وإزهاق أرواح ملايين آخرين في الصراعات الداخلية للغزاة الأوربيين... وكانت هذه الملامح نتاج سلسلة أكاذيب بدأت بأكذوبة كُبرى اسمها: اكتشاف العالم الجديد، الذي لم يكن جديداً إلاّ على الأوربيين، فقد اكتشفه الآسيويون واستوطنوه منذ آلاف السنين بالملايين، وأقاموا فيه حضارات إنسانية مستقرة ومزدهرة قبل أن يُدمّرها الغزاة الجُدد، ويسموها زوراً (أمريكا) نسبة إلى البَحّار الدموي (أمريكو)، واعُتبرت كذباً أنها (أرض بلا شعب)، لتكون أساساً للفكرة الصهيونية المؤسسة للكيان الصهيوني في استنساخ مشوّه للتجربة الأمريكية.
لم تكن أفلام الكاوبوي صورة للواقع التاريخي الأمريكي فقط، أو خلاصة لروح أمريكا المتوّحشة فحسب. بل كانت مؤشراً لملامح السياسة الأمريكية الخارجية تجاه الآخر (المُتخلّف)، خارج نطاق حضارة الرجل الأبيض (المُتقدم)، وبالتحديد بعد خروج أمريكا من عزلتها، لا سيما أثناء وبعد الحرب العالمية الثانية، التي كان لراعي البقر الأول فيها هاري ترومان- الرئيس الديمقراطي- دورٌ مركزي في حسم نهاية الحرب بحركة الكاوبوي في إطلاق النار الخاطفة الصاعقة بإلقاء القنبلتين الذريتين على اليابان لإجبارها على الاستسلام. ورسّخ هذه السياسة الكاوبوي الديمقراطي جون كيندي، مُستحضراً الصورة النمطية لأبطال أفلام الكاوبوي، الذين يُغيرون على القرى بدعوى إنقاذ أهلها المظلومين من (الهنود الحمر الهمج) أو من (المكسيكيين الأشرار)، فأمر جيشه بغزو فيتنام لإنقاذها من (الثوار الشيوعيين الأشرار). حتى توّلى الرئاسة الجمهوري رونالد ريغان، لينقل أفلام الكاوبوي من السينما عندما كان أحد أبطالها في منتصف القرن العشرين، إلى الواقع السياسي عندما مارسها في عقد الثمانينيات من القرن العشرين، فضرب ليبيا جواً، وغزا لبنان براً. وبعد ضرب البرجين في نيويورك، أظهر الرئيس الجمهوري جورج بوش الابن الروح العدوانية المتوحشة لرعاة البقر في غزو أفغانستان والعراق، وقسّم العالم إلى محورين للخير والشر، في معادلة مركزها أمريكا، ومضمونها (من ليس معنا فهو ضدنا)، ليأتي آخر رعاة البقر المتوحشين دونالد ترامب ليُدِخل تعديلاً عملياً على المعادلة الشريرة مركزها (إسرائيل)، ليصبح مضمونها (من ليس مع إسرائيل فهو ضدنا).
بهذه المعادلة الشريرة المتمحورة حول (إسرائيل)، وبعقلية الكاوبوي المتوحشة، كانت القضية الفلسطينية أولى ضحايا ترامب، فطرح (صفقة القرن) لتصفية القضية الفلسطينية وإنهاء الصراع لصالح الكيان الصهيوني، مُنطلقاً من عقيدته الإنجيلية المُتطرفة، وأطماعه الاقتصادية الجشعة، مُستغلاً عنصري القوة والزمن لفرض الأمر الواقع الإسرائيلي، فكانت كل سياسته في المنطقة محورها دعم وجود وأمن وازدهار الكيان الصهيوني، ونهب ثروات العرب، ابتداء من إلغاء الاتفاق النووي مع إيران واغتيال الشهيد قاسم سليماني، وانتهاء بفرض التطبيع على حكام العرب، مروراً بمواصلة الحرب والحصار على سوريا، مدفوعاً بروح الكاوبوي الشريرة التي تسكنه.
وبهذه الروح الشريرة التي استعادها ترامب بفتح غطاء قمقم مارد الكاوبوي المدفون داخله، حاول استعادة (العظمة الأمريكية)، فاستهان بالقانون الدولي، وخرق الاتفاقيات الأُممية، وسعى لتدمير بعض المؤسسات العالمية، فانسحب منها أو هاجمها أو ابتزها بحجج واهية، وهي معاداة السامية، كلمة السر لنقد سياسة (إسرائيل)، أو أنها مناقضة للمصلحة الأمريكية تحت شعار (أمريكا أولاً). ووجه إهانات لحكام العديد من الدول الذين رفضوا الدخول في بيت الطاعة الأمريكي، فردوا الإهانة له، بخلاف بعض حكام العرب الذين دخلوا بيت الطاعة الأمريكي طوعاً، ورضوا بالإهانة جبراً، ثم دفعوا المال (خاوة) لسيد البيت الأبيض كبير الرعاة المتوحشين، مقابل حمايتهم من شعوبهم أو (البُعبُع) الذي صنعه لهم، فرضوْا بالعبودية الطوعية، ولم يعانقهم شوق الحياة.
إذا كان ترامب آخر رعاة البقر المتوحشين، فإنَّ غيابه لا يعني نهاية السياسة الأمريكية المتوّحشة تجاه الشعوب الأخرى، لأنَّ ذلك مرتبط بتلك الشعوب ذاتها، وليس بسيد البيت الأبيض ولعل أهم ما يجب أن يميز الشعوب الحرّة: امتلاك إرادة الحياة خارج بيت الطاعة الأمريكي، وإشعال روح التحدي لمواجهة طغيان القوة الأمريكية، وتنفّس عزيمة النصر للصمود أمام أعاصير الهزيمة الشمالية الغربية... هكذا فعلت شعوب صغيرة بإمكانياتها المادية، ولكنها كبيرة بما لديها من إرادة الحياة، وروح التحدي، وعزيمة النصر، هكذا فعلت ولا زالت كوبا وفيتنام وإيران وبوليفيا وكوريا الشمالية واليمن الحُرة وغيرها، هذا هو طريق الخلاص للدول التي تحب شعوبها وحكامها صعود الجبال وروعة الجمال، وتستلذ ركوب الخطر، وتكره العيش بين الحُفر.