إبراهيم أبو صفية
حالةٌ استثنائية من القهر والوجع والمعاناة، يخفيها الأسير الفلسطيني معتصم رداد خلف إرادة صلبة تواجه الموت في كل لحظة، حيث تعددت الأمراض، والآلام واحدة، التي أنهكت جسده، فبعد إصابته إبان اعتقاله عام 2006، وتقطيب جراحه التي أصيب بها في بطنه، بدأ نوع أخر من الوجع والألم، ففي البداية، كان يعتقد أنها نتيجة الإصابة، إلا أن مع مرور الوقت، وتحديداً في أواخر عام 2008، تبين أن معتصم مصاب بمرض السرطان الخبيث في أمعائه.
وتعطلتْ في العام 2008 حوالي 60٪ من أمعائه، وكان السبب واضحاً ومعروفاً منذ البداية، وهو الإهمال الطبي المتعمد أبان إصابته عند اعتقاله، بالإضافة لإخضاعه لتحقيق عسكري وميداني قاسي من قبل الاحتلال، حيث تم التحقيق معه ميدانياً وهو ينزف قبل أن يقدم له رعاية طبية.
لم يكتفِ السرطان أن ينهش جسد معتصم، بل أصبحت تتناوب عليه أمراض جديدة، وذلك بسبب تعنت إدارة الاحتلال من تقديم العلاج اللازم له، ولم يكن يقدم له سوى "مسكنات"، والتي زادت من الأمراض ومضاعفاتها في جسده؛ إذ كان الأطباء الإسرائيليين المشخصين لحالته يزعمون بأنه مريض بنزيف ومن ثم من قرحة، ولم يعطوا تشخيصاً واضحاً وصحيحاً، إلا بعد أن أكل السرطان ثلثي أمعائه.
وفي عام 2016 أي بعد 10 سنوات من اعتقاله، وثمانية سنوات من بداية تدهور حالته الصحية، أصبح معتصم نزيلاً دائما في مستشفى سجن الرملة احدى مستشفيات الاحتلال والتي يطلق عليها الأسرى اسم "مسلخ الرملة"؛ اختار أن يكون نزيلاً دائما؛ هربا من جحيم البوسطة والآلام التي يواجهها أثناء نقله للمشفى حيث جلسات العلاج الكيماوي، وغيره من العلاج.
تنقسم حياة معتصم في هذا السجن إلى ثلاث مراحل، مرحلة يزداد وجعه حتى يدخل في "هيستيريا"، ومرحلة يتعذب فيها حتى لا يستطيع النوم لأيام وليالي، ومرحلة تخفف آلامه ولكن لا تدوم، فالأولى مرتبطة (بجرعة الفولتارين)، وهي عبارة عن مسكن العظام والتهاب المفاصل، والثانية (جرعة إبرة الحديد) بسبب نقص الحديد عنده، أما الجرعة الأخيرة والتي يكون أهون عليه من أن يعيشها، وهي (جرعة الكيماوي)، والجرعة الأخيرة كانت تفقده الحركة والقدرة على الوقوف، ويصبح لا يستطيع السيطرة على أعصابه، وصولا إلى لمرحلة "هستيرية " من الوجع والألم، ويبقى يوماً كاملاً فاقداً للتركيز.
ويضيف الأسير المحرر مصطفى دراغمة، والذي عايش الأسير معتصم 14 شهرا في مستشفى سجن الرملة، أن معتصم يفقد التوازن عقب أخذ "جرعة الكيماوي"، غير أنه يعاني من مشكلة الأعصاب، وكذلك يعاني آلام الغضروف في ظهره، مشيرا إلى أنه يعاني أيضا من ضغط الدم وعدم انتظام دقات القلب، و هزال عام في الجسم، وصداع مستمر، وارتفاع نسبة الكولسترول في الدم، وضيق في التنفس، وحساسية في الأنف، وضعف في المناعة وهشاشة العظام، ويظهر على أطرافه ما يشبه الثواليل، حتى أصبح يوصف بأنه أخطر حالة مرضية في داخل الأسر.
ويصف دراغمة، حياة الأسير معتصم، بانها عبارة عن نوبات من الألم التي ما إن تركته لحظة تعود بأوجاع وآلام أشد، 14 شهرا عشتها قرب معتصم، لم أذكر ليلة واحد أن معتصم نامها بشكل متواصل، كل نصف ساعة على أقل تقدير يذهب إلى المرحاض، ربما إن قلت أن صراخه داخل المرحاض يسمعه كل من هو بالسجن لن تصدق، حيث يعاني من نزيف دائم وبذات الوقت من إمساك، فعملية إخراج النزيف، يقشعر لها الأبدان عند سماعه.
أما الدواء، مقسم لكل مرض فيه، 3-5 حبات دواء، وقد وصل مؤخرا عدد الأمراض التي يعاني منها 12 مرض، غالبيتها مزمنة، أي أنه يتناول ما يقارب 55 حبة دواء يوميا، إضافة إلى ما يأخذه من أدوية عن طريق الوريد أو حقن أو مراهم تدهن على الجلد أو الكوي بالاوكسجين أو النيتروجين للنتوءات أو الثواليل أو التدرنات الجلدية، أي أنه يعيش على هذه المسكنات، دون أن يعطى العلاج الحقيقي والعناية الصحيحة، فهذه الإدارة بهذه المسكنات تزيد من حبل الأمراض فيه.
وقال عمرو رداد، إن شقيقه "معتصم" أجرى عدة عمليات داخل السجن تخللها استئصال جزء كبير من أمعائه، وأشار إلى أن الوضع الصحي لمعتصم يزداد سوءا وأصيب بـهشاشة العظام والشلل بالعصب الأيسر، مشيرا إلى أنه لا ينام سوى ساعتين في اليوم من شدة الألم.
ولفت عمرو إلى أن عائلته أقامت لنجلها حملة تضامن واسعة عام 2013 بهدف الضغط على سلطات الاحتلال من أجل الإفراج المبكر عن "معتصم"، مستذكرا قول قاضية إسرائيلية أبلغته بأن "لا تحلم بأن يتم الإفراج عن معتصم وأن يخرج حياً وأن القاضي الإسرائيلي الذي حكم عليه بعشرين عاماً مجنون أو سكران وكان من المفترض أن يحكم بعدة مؤبدات".
وجل ما تريده عائلته " استقبال معتصم حيا لا ميتا"، وهذا ما تطالبه بشكل متكرر كل يوم سواء من الجهات الرسمية أو الفصائلية أو المؤسسات الدولية.
معتصم يتعالى على وجعه نصرة لإخوانه الأسرى
ورغم ما يمر به الأسير معتصم رداد، إلا أن أمله بالحرية كبير، وأن كلماته التي كان ينطق بها كانت تقع على قلوبنا بلسما، وابتسامته فيها من الراحة والطمأنينة الكبيرة، وهي التي كانت ترفع من معنوياتنا نحن، يقول الأسير المحرر سلطان خلوف، "بعد عودتي من إضرابي عام 2019، حيث كنت في مشفى "كابلان"، التقيت بالأسير معتصم بابتسامته العريقة وعيونه التي تشع أملا، ومعنوياته التي تلامس عنان السماء، كان دائما يتحدث عن الإفراج ولقاء والدته، غير أن جل اهتماماته إخوانه الأسرى ملفتة جدا، يؤاثر على نفسه من أجلهم، مهتما ومتابعا كل قضية لكل أسير عايشه أو مر عليه ذكره.
ويوصف خلوف، بأن معتصم يبدأ يومه بالصلاة والدعاء وقراءة القران ثم تنطلق الى رحلة المعاناة اليومية مع الآلم فهناك 56 حبة دواء يوميا إضافة إلى ما تأخذه من أدوية عن طريق الوريد أو حقن أو مراهم تدهن على الجلد أو الكوي بالاوكسجين أو النيتروجين للنتوءات أو الثواليل أو التدرنات الجلدية.
ويلفت خلوف إلى أنه كان يبكي كبكاء الطفل أمام آلام "معتصم" وما يعانيه، وهو لم يقدر على فعل شيء ليخفف عنه، بل كان معتصم "يلتفت إلي ويحدثني عن الأمل وأن الله سيغير هذا الحال إلى أحسن" فأتعجب من عظمته أمام أعدائه ومرضه.
وفي خضم آلامه ووجعه، يقوم بزيارة اخوانه في الغرف المجاورة للسؤال والاطمئنان عنهم، ومن ثم يتوجه لساحة القسم للمشي ليس حباً بالمشي او لقدرته عليه، بل كان يواظب على المشي لفترات طويلة حتى يشعر بالتعب الكبير الذي ربما يساعده على الانتصار على الأوجاع ليتمكن من النوم لاحقا ليلاً.
وأشار خلوف، إلى أن "معتصم" يعد حصنا منيعا أمام جبروت ادارة السجن، متصديا لكل قرار يقمع حقوق الأسرى أو يقلل من قيمتهم ومطالبهم، ويذكر الأسير مصطفى دراغمة، في إحدى الأيام، أصر "السهير- السجان" على تفتيش مصحف "معتصم"، فتصدى للسجان ومنعه من التفتيش، وحدثت بلبلة كبيرة داخل القسم، فقرر حينها معتصم عدم أخذ دوائه، مما جعل إدارة السجن ترتبك، وتترجى منه الرجوع عن قراره، فانتصر هنا مرتين، مرة عندما منع من أن ينفذ السجان مهمته والأخرى بإرباك إدارة السجن.
معتصم الرياضي المقاوم والمطارد الأسير
ولد الأسير معتصم رداد، في بلدة صيدا بمدينة طولكرم شمال الضفة المحتلة، بتاريخ 11/11/1982م، لعائلة مكونة من ثلاثة أخوة وست أخوات، وترعرع في بلدته شابا رياضيا طموحا مفعم بالحياة، حيث حصل على مرتبة الرابعة على مستوى الضفة الغربية في سباق الضاحية (7 كلم) قبل اعتقاله بثلاث سنوات تقريباً، وحصل على العديد من الميداليات والبطولات أثناء مشاركاته مع فرق رياضية مختلفة منذ أيام المدرسة.
نجح معتصم بالثانوية العامة في الفرع الصناعي إلا أن اعتقاله الأول عام 2002 منعه من إتمام دراسته الجامعية حيث كان ملتحقا بجامعة فلسطين التقنية "الخضوري" بتخصص التربية الرياضية؛ وبعد فترة اعتقاله الأول قرر ترك تخصص التربية الرياضية والالتحاق بجامعة القدس المفتوحة؛ وبالتحديد في تخصص التربية الإسلامية؛ وبسبب ملاحقة قوات الاحتلال لم يستطع إتمام دراسته الجامعية حيث أصبح مطاردا للاحتلال بعد تحرره من الاعتقال الأول بمدة سنة تقريباً.
وفي ليلة الثاني عشر من يناير عام 2006، أحاطت قوات الاحتلال عمارة حطين بمدينة جنين، التي كان يتحصن بها هو ورفاقه من أبناء سرايا القدس- الجناح العسكري لحركة الجهاد الإسلامي، فدار اشتباك مسلح ارتقى خلاله الشهيدين علي أبو خليل ومعتز أبو خليل، بعد أن قصفت القوات البناية بالصواريخ والقذائف، حينها أصيب معتصم بجروح بالغة معظمها في بطنه؛ وتمكن جنود الاحتلال من اعتقاله وهو ينزف؛ مستغلين اصابته ليهددوه بالإعدام الميداني؛ فيرد عليهم؛ "للموت أهون علي من اعتقالي".