وقفتُ بجانب عربة، كارو تبيع الخضروات لشراء الطماطم، وما أن انتهيتُ من اختيار الطماطم ووضعتها في الكيس البلاستيكي، مددتُ يدي بالكيس للشاب العشريني، صاحب العربة، لكنني وجدته قد ترك العربة مسرعا نحو الجدار المجاور، انحنى عند الجدار، التقط شيئا في يده، لم أتبينْهُ، ثم رفعه نحو شفتيه، قبَّله، ثم وضعه أعلى الحائط القصير.
عاد وهو يقول لي: "قطع الخبز، إنها نعمةٌ، حرام إلقاؤها في الشارع"!
ابتسمتُ له مُجاملا، لكنني ابتلعتُ ابتسامتي بسرعة، وأنا أرى الشخصً نفسَه، يُلقي بحبة برتقالٍ أصابها العطبُ تحت عجلات السيارات في وسط الشارع العام، إنه الشاب نفسُه الذي ترك روث حماره يُلطخ الشارع، بدون أن يقول: حرام، فهو لم يشعر بالحميَّة والغيرة على الشارع العام، كما شعر حين رأى قطع الخبز!
هذا البائع لا يختلف كثيرا عن الرجل المُدخِّن الذي يمتنع عن التدخين في شقته بين أطفاله، ولكنه عندما يُغلق باب شقته، يُشعل السيجارة، ثم يضغط على مفتاح المصعد، ينفث دخان السجائر في المصعد، غير عابئ بضرر جيرانه، حين تبقى رائحة التبغ ساعاتٍ طويلة!
هو نفسه راكب سيارة الأجرة حين يصعدُ وفي يده بقية سيجارته، أو يشعل سيجارة جديدة، وهو جالس، يوزع رائحتها على الراكبين، بدون أن يشعر بالخجل!
ما فعله هذا الشاب، البائع لا يختلف كثيرا عن الشاب المهندم، المُعطَّر، واضع الكمامة اللامعة على أنفه وفمه، ذي المعطف الحريري البرَّاق المتجه إلى الجامعة، وهو يبصق، ثم يُلقِي بقايا ما يأكله تحت قدميه في الشارع العام،
إنه المنظر ذاتُه الذي فعلته الفتاة، الخارجة للتو من أمام مرآة بيتها، الموشاة بكل الأصباغ والروائح، فهي قد أمضت وقتا طويلا في وضع المساحيق والعطور، وهي تحمل في يديها عبوة العصير، أو كوب الأيس كريم، تُلقي ما في يديها تحت الأقدام في الشارع العام!
إنها الصورة ذاتُها حين يبدأ أصحابُ المحلات يومهم، بتكنيس محلاتهم من الداخل، ثم يُخرجون القمامة، وبسرعة البرق يقذفونها في الشارع العام، تحت أقدام السائرين!
كذلك الحال مع أصحاب المنازل، حين يصطادون في البيت فأرا تسلَّل إلى بيتهم، فإنهم يقذفونه فوق الإسفلت تحت عجلات السيارات، ولا يضعونه حتى في قمامتهم!
لن أتحدث عن نظافة الأسواق، ومحلات بيع المأكولات المكشوفة، لأنها أعراضٌ لمرضٍ اجتماعيٍ خطير، وهو إفساد وتشويه الممتلكات العامة، كالحدائق، والشوارع، والمؤسسات الحكومية، والخدمات العامة، كهرباء، وماء!
إن تفسير هذا المرض الشائع ليس صعبا، إذ أن كثيرين سيُرددون الأغنية الشعبية المعتادة وهي غياب التوجيه والتربية في البيت بالدرجة الأولى، وهو ناتجُ أيضا عن عدم وجود توعية كافية في المدارس والمعاهد، وعن غياب التوعية الدينية والاجتماعية والبيئية.
إن التشخيص السابق ليس خطأً، ولكنه يحتاجُ إلى عُمقٍ أكثر، إن هذا المرض إشارة إلى شيئين، الأول، فقدان الإحساس بالآخرين والرغبة في الإضرار بهم، هذا هو الأخطر، هذا المرض ردة فعل انتقامية على كل المحيط، هذا المرض يُحول حامله إلى أناني لا يهمه سوى نفسِه، يهتم فقط بنظافة منزله من الداخل، بينما يُخرِّب كلَّ ما عدا ذلك!
هذا المرض مؤشر على الانطوائية والوحدانية، وإغلاق النفوس على الذوات، هذا المرض وصل إلى حد الرغبة في الانتقام من المحيط، بسبب ضائقة القهر، السياسية، والاجتماعية، والاقتصادية.
كما أن هناك سببا آخر، وهو غياب موانع الصواعق النفسية، أعني بها الفنون الجميلة والرياضات بكل أشكالها وأنواعها، هذه الفنون تعمل بالضبط كأبراج تفريغ الشُحنات السالبة في نفوس البشر، فقد اهتدى الأولون من فلاسفة ما قبل التاريخ في جمهورية أفلاطون إلى أهمية تعليم الموسيقى والفنون، لتنشيط وتحفيز العواطف المسؤولة عن الإحساس بالآخرين.
حتى أن الفنون استطاعت أن تُعيدَ بعض الشواذ والمجرمين إلى مواطنين صالحين أوفياء!
كما أنَّ هناك طريقةً أخرى للتخلص من هذا المرض الخطير، وهي الانخراط في الخدمة العامة، وهي تشمل الخدمة العسكرية، والأعمال التطوعية بمختلف أشكالها!
فما أزال أذكرُ أننا في خمسينيات وستينيات القرن الماضي كنا في مرحلة الدراسة الابتدائية والإعدادية، نُخصص أياما لزراعة الأشجار، ونتدرب تدريبات شعبية وقت الطوارئ والأزمات، كنا أيضا نُخصص وقتا لتنظيف الشوارع من القاذورات، أعترف بأنني ما أزالُ أمنع العابثين بالأشجار العامة، وبالنظافة، مستخدما أسلوب، أضعف الإيمان!
كثيرةٌ هي الدول التي أرست قواعد النظام والنظافة، طبَّقت الأساليب السالفة، غير أن دولا أخرى نجحتْ في محاصرة هذا المرض الخطير بفرض عقوباتٍ رادعة على المخالفين!
هذا، يفسِّر لنا كيف يلتزم الشخصُ بالنظام والنظافة حين يُسافر إلى بلدٍ أجنبي تسود فيه القوانين، وما إن تطأ قدما هذا الشخص أرضَ الوطن حتى يطوي صفحة النظام والنظافة، ويستعيد مرض التشفِّي والانتقام!