قائمة الموقع

عبد الكريم الموسى.. رجل الخير الذي رحل مخلداً سيرته في ذاكرة الأيتام

2020-12-13T09:58:00+02:00
عصام يوسف.jpg
بقلم/  الدكتور عصام يوسف

يعود الفضل، بعد الله (سبحانه وتعالى)، في تقديم العمل الخيري الإسلامي كمنهاج فكري، وعقل لا يتوقف عن النضوج والتطور، إلى رجالات حملوا على عاتقهم عبء المسؤولية تجاه الفقراء والأيتام، ومستحقي المساعدة كافة، وسعوا في إيصالهم إلى بر الأمان، وسبل العيش الكريم.

هؤلاء الرجالات يحملون صفات الفرسان، الذين يجوبون الأرض طولاً وعرضاً، لتحقيق أغراضهم النبيلة، كرفع الضيم عن الضعفاء، وإطعام الجائع، وتأمين المستغيث، بل ويمضون في الطرق الوعرة واضعين أسساً لمنهاجهم الإنساني، ومشيدين للخير مؤسسات، تكبر وتكبر بما أمدوها به من ذخيرة العطاء الذي لا ينضب.

من هؤلاء الرجالات عبدالكريم بن خليل الموسى، الذي اختار أن ينذر معظم سنين عمره للأخذ بيد اليتيم، لا ليسد رمقه فحسب، بل ليسهم في إعداده وتأسيسه، ليغدو إنساناً صالحاً ينفع مجتمعه، ويؤدي دوره في الحياة، كأي إنسان آخر، لم تخدش ذاكرته مشاهد الحرمان، ولم يترك العوز في داخله صدعاً لا يلتئم، كندبة تركها وحش الفقر في جسده البرئ.

عبدالكريم بن خليل الموسى، الذي صدمنا بخبر رحيله إلى الرفيق الأعلى، اختار أن يكون "الأيقونة" لصانع الخير، في ساحات وميادين يعرفها، أو لا يعرفها، ما دام الخير هو الهدف الاستراتيجي لمشروع الخير الذي تنفتح أبوابه، ولا تُغلق، فعمل الخير لدى الموسى بما يترسخ في قناعاته، هو المشروع الوحيد في الوجود الذي يبدأ ولا ينتهي.

ولطالما كان عمل الخير هو الأساس، ومستحقيه في أي مكان هم الغاية المقصود العمل لأجلها، لم تكن المؤسسات بهيكلياتها المختلفة المعضلة لديه، فالموسى بمثابرته وإخلاصه واجتهاده، وحبه للخير، قادر على أن يكثف من نور شعلة زملائه في المؤسسة نوراً كاشفاً للطريق، بل وللأفق البعيد، بما يمتلك من صلابة في الحق، وبذل كل الجهد لتجاوز الصعاب.

رافقتُه في كثير من دروب الخير، من أبرزها تلك المؤدية لفلسطين، وأبنائها الذين يعرفون الموسى، بوجهه المشرق الذي يمثل طيبة وشهامة وأصالة أبناء المملكة العربية السعودية التي يتحدر منها، والتي كان أبناؤها سنداً منذ بدايات المأساة الفلسطينية، للشقيق الفلسطيني، يمدون جسوراً للخير تشد من عضد اليتيم والجريح والمريض والثكلى..

ولعل تنقله بين المؤسسات يشكل حالة إثراء له، وللمؤسسات، ولمنهجية العمل الخيري الإسلامي على حد سواء، فبصماته واضحة في مؤسسات عريقة كالندوة العالمية للشباب الإسلامي، التي عمل في فرعها بالمنطقة الشرقية، وهيئة الإغاثة الإسلامية العالمية التي أصبح ممثلها في الأردن، ولبنان، والضفة الغربية وقطاع غزة.

يعلق في ذاكرتي هاجسه المستمر من أجل توسيع دائرة شمول المزيد من الأيتام، حين تشاركت معه العمل في لجنة المناصرة الخيرية الكويتية لفلسطين ولبنان، حين بدأنا العمل ولم يكن في قوائمنا سوى يتيمين اثنين، فيما ظل الهاجس يطارده حتى امتلأت القوائم بآلاف الأيتام، فكفالة اليتيم ميدان يحارب فيه، ولا يقبل فيه المهادنة ولا الإرتكان إلى السكون والكسل، فالوصول إلى كل يتيم كانت بالنسبة له جولة يكسبها تلو الأخرى في معترك العمل الخيري.

وصلت أيادي الموسى البيضاء من خلال عمله في هيئة الإغاثة الإسلامية العالمية، إلى الآلاف من الأسر الفقيرة في الأردن ولبنان، بما في ذلك مخيمات اللاجئين الفلسطينيين، عبر أشكال الدعم المختلفة، من توزيع لطرود الخير، ولحوم الأضاحي، وكفالة الأيتام، وغيرها من أعمال الخير، مردداً على لسانه بشكل دائم جدوى ما يقوم به، من خلال استشهاده بالحديث النبوي الشريف: "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم، كمثل جسد، اذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى".

وللموسى في الأزمة السورية جهود استثنائية، حيث لم يقف الأمر عند تعزيز مشاريع إغاثة اللاجئين والنازحين السوريين في الأردن ولبنان فحسب، بل بالحث على تقديم ما أمكن من الدعم، واستنهاض الهمم من أجل استيعاب المصاب الجلل الذي حل بالأشقاء السوريين إنسانياً، إضافة لدعم المجتمعات المضيفة للاجئين، مؤكداً عند تنفيذ كل مشروع إنساني بأن ما يجري توزيعه من مساعدات لا يفرق بين لاجئ سوري، وفقير ويتيم أردني أو لبناني، فالعوز والحرمان قاسم مشترك بينهم.

تعمّد الموسى التوجه إلى تكريس منهجية التنويع في المشاريع التي ينفذها مكتب الهيئة في الأردن ولبنان، ليشمل إلى جانب كفالة الأيتام، كفالة الأسر الفقيرة والطلاب، والمشاريع الموسمية (كالحقيبة المدرسية، وإفطار الصائم، وكسوة العيد، وغيرها)، ومشاريع التنمية التعليمية (كتأسيس مراكز التحفيظ، وتطوير وإنشاء مراكز الأيتام، وحلقات القرآن الكريم، والعمرة السنوية)، ومشاريع مختلفة كبناء المساجد، ومساعدة المعاقين والمرضى، وعلاج جرحى الانتفاضة الفلسطينية في المستشفيات الأردنية.

ولدبلوماسيته الخيرية، وإمكانياته في بناء العلاقات الواسعة، الفضل في تمكن الموسى من ترسيخ قدمه في كل ساحة يعمل فيها، ونسج خيوط التعاون والتنسيق والتشبيك مع المؤسسات الإقليمية والمحلية، ويظهر ذلك في حرصه- وحرص الهيئة بطبيعة الحال- على مد جسور التعاون مع الجمعيات واللجان والمؤسسات الخيرية المعتمدة في الأردن ولبنان، وتبادل الخبرات وتقديم بعض المساهمات الضرورية التي تدفع بالعمل الخيري والإنساني قدماً.

ومع ذلك، ظلت قضية تطوير آليات العمل في مشاريع كفالة الأيتام، شغله الشاغل، فالغاية في التركيز على هذا الجانب في مفهومه الشامل، بقي ديدن الفقيد الموسى، حيث كان يسعى بشكل دائب إلى "تنمية الجوانب السلوكية والثقافية والمهارية لدى اليتيم، باعتباره شريحة واسعة من مجتمعاتنا المحلية".

انبرى الموسى للعمل في تنفيذ المشاريع الريادية التي تخلق الأمل للايتام بمستقبل واعد مليء بالتقدم والإنجاز، كمشروع تأهيل الأيتام مهنياً، بهدف الوصول باليتيم إلى الاعتماد على الذات وتحمّل المسؤولية، وحتى لا يُنظر له كعالة على مجتمعه، وهو بذلك الفكر الخيري المبدع يسهم في وضع أسس تقوية المجتمعات، وتمتين روابط التكافل والتراحم فيها، على المديين المتوسط والبعيد.

اطمئن يا رجل الخير، فأيتامك وصلوا إلى طريقهم سالمين..ما بقي نهجك الخيري حياً، وقد خلّدت اسمك وسيرتك في ذاكرتهم، فارساً ومرشداً، ورجل خير أسهب في عمله المعطاء، سائلين العلي القدير لك الخلود في الجنة، ولروحك الرحمة والمغفرة، وأن يعوضنا الله في مصاب رحيلك خيراً.

 

اخبار ذات صلة