بقلم د. وليد القططي
كانَ الوقتُ بعد الفجرِ بقليل، والليلُ يوشكُ على الرحيل، عنْدمَا رنَّ هاتفي الجوّال، ففتحتهُ وقلبيَ مُعلّقٌ بين الخوفِ والرجاء، فإذا بصوتِ ليلى- بنتي البكر- يستصرخني ضعيفاً مكتوماً "الحقني يابا أنا بموت تعال خدني"، فكانَ ذلك آخرُ عهدها بالكلام، وغابتْ عن الوعي بضعةَ أيام، ثم لفظتْ آخرُ زفيرِ أنفاسها، ونبضتْ آخرُ دقاتِ قلبها، وأسلمتْ الروحُ إلى بارئها، وسكنَ جسدُها فلا حراك، وغفت عيونها في وجهٍ كالملاك، واُسدلَ الستارُ على قصتها مع مرضِ السرطان بعد عامٍ ونصف من المعاناة، وأثنين وثلاثين ربيعاً من الحياة، بدأت بالفشل الكلوي وانتهت بوباء الكورونا، الذي تسلل فيروسه اللعين إلى جسدِها المُنهك بالسرطان فأضناهُ، ونفسها المُتعبة بالهمومِ فأوهَنَها، وروحها المُثقلة بالأحزانِ فأردَاها. فكانتْ المستشفى هي عنوان اقامتِها الجبريةِ الدائمة، ومرض ُ السرطانِ عنوانُ أخرِ فصلٍ في كتابِ حياتِها القصير الحزين، والغدُ الأجملِ عنوانُ قصتُها الجميلة التي آمنتْ بها دون أن تقرأها، وشوقُ الحياة عنوانُ قصيدتِها المُفضّلة التي عشقت معانيها ولم تعشْها، ورحمةُ اللهِ عنوانُ الأملِ الذي تشبثتْ بهِ دون أنْ تيأسَ من روحِ الله.
ليلى كغيرها من مرضى السرطان في غزة وكل فلسطين، الذين تتضخم أعدادهم ككرة الثلج المتدحرجة، وهم يمضون على طريق الآلام في قافلة الموت، فيتساقط على جانبيها المرضى صرعى كأعجاز نخلٍ خاوية، وليلى من الذين ركبوا عير القافلة زمناً معلوماً، فأخذت نصيبها وعداً مكتوباً، ثم ترَجّلت أجلاً محتوماً، فكانت في الدنيا كأنها غريبة أو عابرة سبيل، فمرت كنسمة ربيع رقيقة، وعبرت كلحظة ذكرى جميلة، ومضت كسحابة صيف خفيفة، في مأساة إنسانية مُتجددة، بطلها مرض السرطان، وضحاياها المرضى وأهلهم، من الذين بسطت مشاعر الحزن ظلالها الثقيلة على نفوسهم الحزينة، ونسجت عواطف الأسى خيوطها الغليظة على قلوبهم الكسيرة، فعانوا أوجاع مرض السرطان مرة، وكابدوا عذابات العلاج الكيماوي مرات عديدة، وكان لنا من الحزن والأسى نصيب، عندما انتزع المنون فلذة كبدنا، واستأثر لنفسه بجزء من روحنا، ودفنا في التراب بعض قلبنا، فمات بعض الجمال الساكن في أعماقنا، وخيّم ليل الحزن على منزلنا، وحلّت حُرقة الآه في صدورنا، ثم غادَرَنا قطار الموت ثكلى إلى غيرنا، ليكمل رحلته الأبدية، لينزع ركابه ممّن كُتِبَ عليهم الموت إلى مضاجعهم.
ليلى كغيرها من مرضى السرطان، لم تعرف للدنيا معنىً بعيداً عن الصحة، ولم ترجُ من الحياة أملاً سوى العافية، ولم ترَ في منامها حُلماً عدا معجزة تعيدها إلى الحياة، أو تعيد الحياة إليها، ولذلك كتبت من وحي آلامها وآمالها في صفحتها على (الفيسبوك) تقول: "لا اعتراض على حكمك يارب، فقط أبث حُزني ووجعي إليك، قلبي ينزف دماً، ارحمني يارب، وخفف عني وجعي، لا أُريد من هذه الدنيا سوى الصحة يا كريم، وجعي فاق الأُفق، ارحمني برحمتك يارب، نفسي أشوفك يا زيون وسلمى وأحمد وريان بأعلى المراتب". لعلَّ الله تعالى قد اطّلعّ على آخر أمنياتها فألهمها النظر فيما وراء حجاب الحاضر لترى أُفق المستقبل، فرأتهم بعين اليقين، كما تمنت نجوماً تتلألأ في سماء المجتمع، فذهبت إلى ربها بروح آمنة ونفسٍ مطمئنة.
ولعلَّ الله تعالى قد اطّلع على صدق يقينها فأراها فيما يرى النائم قبل رحيلها صور أطفالها الأربعة نائمين بدفء وأمان تحت جناح الرحمة الإلهية، فحمدت الله على مغادرتها الدنيا قبلهم ولم تغادرها بعدهم، فرحلت إلى بارئها مبتسمة وراضية مرضية، ولعلَّ الله تعالى قد اطلع على صدق سريرتها فأكرمها بسماع أصواتهم وهم يودعونها، أو رأت وجوههم وهم يقبلونها، أو تنسمت عبيرهم وهم يحضنونها، أو رنّت في أذنيها ضحكاتهم وهم يلاعبونها، فهوّن عليها سكرات الموت الأخيرة، فكانت من الذين تتوفاهم الملائكة طيبين. ولعلَّ الله تعالى قد اطّلع على صالح أعمالها فخُيّل إليها قبل موتها أنها تعد لهم أطيب طعامهم. وتلبسهم أجمل ثيابهم، وتلعب معهم أحب ألعابهم، وترتب لهم حقائبهم المدرسية، وتراجع معهم واجباتهم المنزلية، فغادرت الدنيا ضاحكة مستبشرة.
وقبل رحيلها- كغيرها من مرضى السرطان – كان وحش المرض قد نهش الحُسْنَ الذي أودعه الله في خلْقها، وغول السرطان قد التهم الجمال الذي أبدعه الله في رسمها، ففرغ جسمها اليافع من نضارته، كما تفرغ الكلمات البليغة من معانيها الجميلة. وخلا وجهها الوردي من رونقه، كما تتخلّى الأزهار اليافعة عن ألوانها البديعة. وخبا بريق عينيها الخضراوين كما تخبو أنوار النجوم عن تألقها. وغادر الجمال شعرها الأشقر، كما تغادر المياه العذبة جداولها فتتركها صخور صلدة. وضعفت رجلاها عن حملها، كما تضعف النفوس عن حمل هموم أصحابها، وعجز لسانها عن الكلام، كما تعجز العصافير عن التغريد، ودُفِنتْ في أعماقها ابتسامتها، كما تُدفنْ ابتسامة لوحة الموناليزا... فعزَّ عليَّ يا بُنية حين أرنُو إليك... أبحثُ عن جمالِك لا أراه!، ولقد عجبتُ لحُسنِ خَلْقكِ كيفَ يُمحى؟.. ويزولُ بعد الحُسْنِ بهَاه!، فوا أسفاهُ على ملاحةِ وجْهكِ كيفَ يَفنى؟... ويمضي بعد رونقهِ سنَاَه!، ويا حُزنِي على نضارةِ جسمٍ كيف يَبلى؟.. ويَهْرَمُ بعد شبابهِ صِبَاه!.
وعند ذلك الحد من اشتداد المرض واستعصاء الشفاء كتبت ليلى في صفحتها على (الفيسبوك) تقول: "كنتُ اعتقد أنَّ القادم أجمل، كانَ لديَّ أحلام، وكنتُ أصدق المعجزات، وكنت أظنُّ أن تلك المعجزة هي عبارة عن حب سيأخذني ويخرجني من هنا، كل ما عشته في المرض كان مُخيفاً، لا يستطيع أحد أن يشعر بما في داخلي، ولا استطيع أن أُعبّر عن بحر الأوجاع التي لا يستطيع أحد استيعابه، الإنسان لا يستطيع أن يترك حياته لأن الدنيا حياة واحدة، لا أريدها أن تمضي عبثاً وتنتهي ولكن لا استطيع أن أغيّر القدر، ولا استطيع أن أبدأ حياتي كما أُريد".
ربما أدركت ليلى في آخر أيامها قرب رحيلها، بما أزال الله لها عنها من حُجب كشَفَها لها لاقترابها من نفخة الروح وسمو السماء، وسترها عنّا لالتصاقنا بقبضة الطين ووحل الأرض، فلم تعُدَ تأبَه لأوجاعها وآلامها ليقينها بأنَّ الله تعالى سيمحُها عند أول غمسة في الجنة، وأول صبغة نعيم، بما صبرت على مرضها، واحتسبت أجرها، وحمدت ربها، فاهتمت بأوجاع غيرها وآلامهم، ممن لا زالوا يتقلّبون وجعاً على جمر مرض السرطان، ويتلوون ألماً من نار العلاج الكيماوي، فكتبت في صفحتها على (الفيسبوك) في أخر تغريداتها تدعو لهم: "اللهم يا من شفيت أيوب، وكشفت الضر عن يعقوب، أشف كل مريض يتألم ولا يتكلم، ولا يعلم بحاله إلاّ أنت، اللهم إني أسألك الشفاء لكل روح عجزت عن النوم بسبب المرض، رب أرح ثم هوّن ثم اشف كل نفسٍ لا يعلم بوجعهها إلا أنت".