بقلم/ د. هاني العقاد
واكب انطلاق الثورة الفلسطينية حالة عربية مبعثرة وجبهات عربية ضعيفة وتشتت في القرار العربي وعدم قدرة علي بناء جبهة عربية موحدة لمواجهة "إسرائيل" وخاصة بعد نكسة العام 1967 فكانت الثورة الفلسطينية البديل والجبهة المقاومة التي اعلنت الاشتباك مع الاحتلال الاسرائيلي في كل مكان واينما وجد وسجل الثوار منذ ذلك التاريخ ابرز ملاحم البطولة والمجد الثوري واعادوا للكرامة العربية سمعتها المشرقة التي ضاعت بعدما اهينت الامة العربية في حرب العام 1967. كانت (معركة الكرامة) التي انتصر فيها الفدائي الفلسطيني علي الجيش الاسرائيلي وما يمتلكه من سلاح عنوان لثورة طويلة الأمد وارادة ثوار لا تهزم مهما قابلت من تحديات ولا يمكن ان تنكسر بل ستستمر في عنفوانها وتقوية صفوفها ليس لمعركة موعودة فقط بل للاستمرار في الاشتباك الذي ما توقف حتي تاريخنا هذا.
منذ ذلك التاريخ والثورة الفلسطينية مثلت قبلة الثوار والاحرار العرب والاجانب عندما فتحت الثورة صفوفها لكل من اراد التطوع والقتال الي جانب الفلسطينيين, بالمقابل فتحت معسكرات لتدريب هؤلاء الثوار في الكثير من الدول العربية ونذكر منها الجزائر واليمن ومصر وسوريا ولبنان والعديد من دول العالم الحر, منذ ذلك التاريخ اصبح يحسب للثورة الفلسطينية حساب وبدأت الاحتلال الاسرائيلي يخطط لتصفية قادتها دون استثناء علي اعتقاد ان ذلك سيضعفها لكن العكس هو الذي حدث فكلما استطاعت اسرائيل الوصول إلى قادة الثورة ومفكريها واغتيالهم زادت الثورة قوة وعنفوان وكبرت بعمليات عسكرية مرعبة للاحتلال الصهيوني .
مرت الثورة الفلسطينية وقيادتها المتمثلة بحركة فتح بالعديد من المراحل التي حاولت فيها بعض أجهزة المخابرات العربية احتوائها واحتواء استراتيجية النضال والعمل الفدائي وبالتالي احتواء قرارها المستقل والهيمنة عليه فعمدت الي دفع الاموال للبعض للانشقاق وتشكيل بعض الحركات والتيارات التي ليس لها اهداف سوي تشتيت العمل النضالي والفدائي وتمزيق صفوف الثورة, فشل الكل وقويت الثورة واصبحت صاحبة قرار فاعل في معادلة الصراع وخاض زعيمها ابو عمار معارك متعدد وبقيت الثورة صاحبة رؤية وقرار مستقل . خاضت الثورة الفلسطينية معارك شرف دفاعا عن الامة العربية ودفاعا عن مكونها الثوري فكانت حرب بيروت التي اعتقدت فيها "إسرائيل" انها يمكن ان تنهي الثورة وتلقي القبض علي مقاتليها وترمي بهم في معتقلات خلال ايام, لكن الثوار قاتلوا بشراسة حتي ادركت "إسرائيل" أنها لن تستطيع تحقيق اهداف حربها بالكامل فاكتفت بوقف اطلاق النار وقبول أن يترك المقاتلين الفلسطينيين بيروت ويرحلوا الي بعض الدول العربية وغادر الفدائيين بيروت بأسلحتهم وبذاتهم العسكرية الي مواقع مؤقتة للانتقال للوطن.
تفجرت (الانتفاضة الفلسطينية ) الاولي واربكت كل المستويات الاسرائيلية الامنية والسياسية والاستراتيجية, لان اسرائيل اعتقدت انها قضت علي الثورة الفلسطينية وانتفض الفلسطينيين في غزة والضفة الغربية والقدس, تحولت الشوارع الي ساحات مواجهة بالحجر والمنتوف مقابل الرصاص , تعملقت الثورة الفلسطينية واشتدت المواجهة علي الارض وبدأ العمل المقاوم يأخذ شكلا منظما فاعتقدت اسرائيل انها اذا اغتالت باعث الوعي الثوري )ابو جهاد الوزير( استطاعت ان توقف تلك الثورة وتقضي عليها في مهدها فما كانت الا العكس اشتدت المواجهات وتكبدت اسرائيل خسائر مادية ومعنوية كبيرة .لم يستطع الجندي الاسرائيلي النظامي الصمود امام هذه الانتفاضة الشعبية والادوات التي استخدمها المنتفضون . اعتقدت اسرائيل انها يمكن ان تنهي حالة الاشتباك والانتفاضة بقبول "السلام" تكتيكا وبالتالي ابرام معاهدة "السلام" التي عرفت بـ (اوسلوا ) والتي علي اثرها انتقلت قوات الثورة الفلسطينية من الشتات الي الوطن وعاد اكثر من 800 الف فلسطيني الي الضفة الغربية وقطاع غزة ,انتهت المرحلة الانتقالية دون ان يفلح الطرفان بالوصول الي اتفاق ينهي الصراع وبدأت مرحلة جديدة في الصراع بعد العام 2002 وهي نشوب (انتفاضة الأقصى) التي كانت برهانا ان رماد لثورة لن ينطفئ ولن يتم تفريغها في سلطة حكم ذاتي محدود , انتهت هذه الانتفاضة باغتيال اسرائيلي واضح المعالم للشهيد القائد (ياسر عرفات ) ولم تنتهي الثورة ولم يتوف الاشتباك مع الاحتلال الاسرائيلي.
بعد فشل بعض القوي الاقليمية المركزية بالعالم ايجاد بديل للثورة الفلسطينية وقيادة مسيرة التحرر ظهر امام الثورة اخطر المخططات التصفية وللأسف بمشاركة عربية من جديد ( سلام التطبيع ) علي اعتقاد ان كل اتفاقيات التطبيع التي تبرمها اسرائيل مع العالم العربي ستحاصر (م ت ف ) وتربك حسابات قادتها وتجبرهم في النهاية للتعاطي مع تلك الضغوط التي شكلتها تلك الاتفاقيات ومن ثم التماشي مع المخطط الامريكي التصفوي بالقبول بحل يرتكز علي منح الفلسطينيين شبه دولة منزوعة السيادة والسلاح وتحت الوصاية الامنية الاسرائيلية نعرفه علي انه ليس سلاما حقيقيا بل استراتيجية لتغير شكل الاحتلال من عسكري الي امني وبطريقة توحي للعالم أن السلام قد يتحقق , كما فشلت كل محاولات الاحتواء طوال اكثر من خمسة عقود من العمل الثوري ستفشل هذه المحاولات وستبقي الثورة حتي تنتصر . ان انتصار الثورة علي كل المخططات اليوم يتطلب ووجود وحدة وطنية تؤمن بان (م ت ف) هي الممثل الشرعي والوحيد , و وجود حالة اشتباك دائم مع الاحتلال الاسرائيلي ومستوطنيه علي طول نقاط التماس وعلي الارض , في المدن والقري والكفور بالضفة الغربية وغزة بالطبع .علي الرغم ان اسرائيل تحاول توظيف (الانقسام الفلسطيني ) المستمر منذ 14 لإحباط تطور اي مقاومة حقيقية علي الارض مع المحتل كانتفاضة ضارية وابقائها في اطارها الفردي الغير منظم الا ان المواجهة في الضفة تتطور بشكل لافت دون تغطية من الاعلام الرسمي والخاص للأسف يعزز وجودها لتكبر وتؤتي ثمارها . ولأنها ثورة تناقلت الاجيال رايتها وحفظت منهجها الثوري ,ارتقي الاف الشهداء دفاعا عنها فإنها بعد 56 عاما مازالت قوية ولم تهرم لتشكل عنوان كل المراحل وقبلة الثوار ومن يتحدث باسم الفلسطينيين اينما كانوا لتبقي (منظمة التحرير الفلسطينية) هي الممثل الشرعي والوحيد امام كل المتغيرات الاقليمية والدولية ومحاولات ايجاد البدائل والاحتواء الفاشلة .