بقلم: الدكتور عصام يوسف
رئيس الهيئة الشعبية العالمية لدعم غزة
فاق ما سيتركه العام 2020 المنفرط، حدود الإدراك، والاستيعاب، فالكثير مما دونه في سجل عام من التاريخ، يوشحه السواد، وفيض من الحزن والقلق، وعيون مشدوهة نحو غد أقل حلكة، وقلوب ترتجي من الله السكينة والطمأنينة.
بإصرارها على مرافقة العام منذ بداياته، وإنهائه وهي ما تزال تعتليه بشراستها ودمويتها المنفتحة على الاحتمالات الأليمة، تقلب جائحة "كورونا" أو "كوفيد 19" موازين الحياة الاعتيادية، لتخوض في كل ما هو فوق العادة.
ربما أخضعت الكثيرين لاختبارات الكفاءة الأخلاقية، وكشفت في مواضع كثيرة مكنونات النفس البشرية، فيلحقها البعض ضمن معادلات كشف المعادن الأصيلة، ومدى تمايزها عن الفحم الحجري، إلا أن الخشية على منجزات الكائن البشري الحضارية من التداعي والضياع أهم من خوض غمار الفرز والتمحيص بين ما هو أصيل أو غير أصيل، وما هو ضار أو نافع، وما هو تقي أو ضال.
جاءت "كورونا" لترينا شكلاً آخر من الحياة، لم نألفه، فالتعليم المدرسي ليس كما نعرفه، والالتحاق اليومي بالأعمال والأشغال ليست كما كانت، ومشاركة الأفراح والأحزان بالشكل التقليدي الإجتماعي لم تعد كما هي، بل إن الشارع الذي اعتدنا السير فيه لم يعد يشبهه، بعد أن أصبحنا نخشى التقارب، وقد حجبنا بعضنا عن بعض بلثام الوجه والقفازات، نتوجس خشية من فايروس قد ينفلت عقاله ويستقر في أجسادنا، ربما من أقرب المقربين لنا.
إن كانت هذه الكائنات الدقيقة قد عززت في البعض حب الذات أكثر فأكثر، وأزاحت الكثيرين عن أداء أدوارهم في الحياة، إلا أن مرابطين على خط إسناد الإنسانية، والدفاع عن كرامة البشر، وحقهم في الحياة الكريمة، ظلوا مخلصين لواجبهم الإنساني، يجابهون تمدد الفقر هنا وهناك، والوقوف في وجه ملء بؤس البطالة فراغات الأمل في حياة أفضل، وإمداد اليد التي تمسح دمعة اليتيم بالقوة والصبر والحماسة.
خسارات لا تضاهيها خسارات، تلك المقرونة برحيل صنّاع الخير، الذين جالوا خلال سني عمرهم الأرض طولاً وعرضاً ينثرون فعائل الخير كبذور تزهر حيناً، وتثمر حيناً أفراداً وجماعات غادروا مربع العوز بعد أن نجحوا في انتشالهم من جحيم الفقر، وأجيالاً من الأيتام تنفع مجتمعاتها، وأيدٍ لم تعد تقبل باستجداء عطف الآخرين، بل بإنتاج قوت يومها بنفسها، ومريض كانوا وراء إكمال رحلة علاجه، أو التخفيف من مصابه وأوجاعه.
كثير منهم ممن نذر حياته لخدمة أمته، ومركزية قضاياها، القضية الفلسطينية، ببعدها الإنساني والعقائدي والوجداني والروحي، إلى جانب قضايا إنسانية أخرى، وصلت فيها أذرع الخير إلى أبعد مدى، فللخير المرتكز على العزيمة والدافعية الأخلاقية البحتة أذرع قادرة على الوصول إلى أبعد أصقاع الأرض، وملامسة قلوب أنهكها الحرمان، وعيون صغيرة أرهقها الدمع لشدة البؤس.
ومع الإدراك بأن التاريخ العربي والإسلامي يزخر برموز العمل الخيري الذين يرحلون تاركين وراءهم البصمة التي تميز عملهم ومنهجيتهم في الأداء، فضلاً عن سيرتهم الإنسانية الغنية بالإنجازات، إلا أن الرحيل المتتالي والمتسارع لكوكبة متميزة من رجالات العمل الخيري خلال فترة زمنية قصيرة، كان له وقع الخسارة الكبيرة في النفس، وعلى القطاع الخيري والإنساني برمته، ربما يمكن لنا تأريخ هذه الفترة منذ أواخر العام الماضي 2019، الذي سجّل رحيل رائد العمل الخيري، الدكتور جهاد سويلم، الذي كرس حياته ومجهوده الإنساني من أجل القضية الفلسطينية، والدفاع عن نصاعة بياض صفحة العمل الخيري الإسلامي من أية شائبة، أو ادعاءات باطلة تسوّق ضده هنا وهناك.
وقد عبر سويلم، صاحب الحركة "المكوكية"، التي لم تعرف الكلل أو الملل في مجال العمل الخيري، عن وعي إنساني وديني وسياسي كبير، قاده إلى التفكير المستمر بمثلى الطرق والوسائل في الاستعانة بمقدرات الأمة، وبكافة الجهود الخيرية، عبر توحيدها من أجل حماية هويتها، التي تبدأ بمسح دمعة اليتيم الفلسطيني، ولا تنتهي عند تنفيذ المشاريع التنموية من تعليمية وصحية واجتماعية، وغيرها، يوازي ذلك الإيمان بالتمسك بالثوابت في استرداد حقوق الشعب الفلسطيني على أرضه وترابه وموارده، وخلاصه من الاحتلال.
حصيلة الخسارة في رجالات العمل الخيري والإنساني للعام 2020 كانت ثقيلة، ترجل فيها صنّاع للخير في غفلة منّا، ومن الزمن ذاته، فقد رحلوا في أوج عطاءاتهم، تاركين وراءهم فراغات كبيرة، وكبيرة، لا يمكن لأي كان أن يملأها، فروح العمل الخيري تتجلى في خبرتهم الواسعة، وفي أنفاسهم المتشبعة بحافز العطاء، والحماسة والدافعية لبذل ما يمكن بذله من أجل الآخرين الغرقى الذين يتنظرون في الضفة الأخرى لتمتد لهم سواعد العون والإنقاذ من الغرق.
"أحمد الكرد"، ابن غزة، كان أحد رموز العمل الخيري، ومن أوائل المترجلين التاركين إرثاً إنسانياً كبيراً ونفيساً، امتلك فلسفته الخاصة في العمل الخيري، الذي استطاع أن يسير به بمحاذاة تاريخه النضالي ضد الاحتلال، فالصمود عنده يشمل إلى جانب العديد من معانيه وأشكاله، العمل من أجل فقراء وأيتام وأرامل ومرضى وجرحى الشعب الذي يرزح تحت الاحتلال, وعلى رجل الخير أن يكون جاهزاً دوماً لدفع فاتورته.
أما محمد علي سليمان (أبو فارس)، مدير "جمعية الإغاثة الطبية الدولية- ميدكس وورلد وايد"، مقرها تركيا، فقد كان لخبر رحيله وقع صدمة أخرى، لأخ كريم برز كعلامة فارقة في مجال العمل الخيري الموجه لأبناء الشعب الفلسطيني، المتخصص بدرجة كبيرة في مجال الدعم الصحي، وظهر ذلك جلياً في ما قدمه من جهود أسهمت في النهوض بالمؤسسات الصحية في غزة، وفي مخيمات اللجوء الفلسطيني، ومختلف أماكن الشتات الفلسطيني.
وتتضاعف حصيلة الخسارات برحيل الدكتور عصام الفليج، ابن كويت الخير، وصاحب القلم الحر، الذي خصص خبرته وكتاباته في مجال العمل الخيري والدعوي، وتعزيز القيم الإنسانية في المجتمعات، وقاد العديد من المبادرات الإنسانية خدمةً للشعوب المحرومة والمظلومة، وفي مقدمها الشعب الفلسطيني، حيث لم يبخل الفليج بوقته وجهده في الحض على تقديم مختلف أشكال الدعم لقضيته العادلة.
ويكمل رحيل الدكتور رمضان طنبورة، رئيس جمعية الفلاح الخيرية في غزة، فواجع العام المنقضي، سيما وأن طنبورة يحمل "ديناميات" رجل العمل الخيري الذي لا يتوانى عن تلبية نداء المستضعفين من أبناء شعبه في أشد الظروف والأزمات، وخلال الحروب، ولشدة التصاقه بتفاصيل حياة فقراء غزة، استحق لقب "صديق الفقراء" الذي يحلو للغزيين وصفه به، وتذكره من خلاله، لسيرة عطرة ستحيا إلى الأبد من خلال بصمات الخير التي تركها في معظم أحياء وشوارع القطاع.
ولا يكاد ينتهي العام المنصرم، إلا بتعميق حجم الألم والمصاب بفقدان الأحبة، بعد تغييب الموت لأحد رواد العمل الخيري الإسلامي، وصاحب السيرة الغنية بالخبرة الكبيرة التي أثرت مؤسسات العمل الخيري الإسلامي خلال العقود الماضية، الشيخ عبد الكريم بن خليل الموسى، الذي سعى خلال سني عمره للحفاظ على تقديم الدعم لأكبر عدد ممكن من الأيتام، حتى مرحلة تأهيلهم وتمكينهم من الاعتماد على أنفسهم كأفراد منتجين، لخدمة مجتمعهم ولصلاح حالهم، وصولاً لانتاج مجتمعات مسلمة مستقرة ومتكافلة إجتماعياً.
ومع بدء العد التنازلي، وبينما يلملم العام أيامه وسويعاته الأخيرة، يأتي خبر رحيل رائد العمل الخيري، رئيس جمعية البركة للعمل الخيري والإنساني في ولاية سطيف الجزائرية، زهير مساحلي، ليزيد من مرارة الفقد، ولوعة الحزن على الاحبة، فللفقيد صولاته وجولاته التي لا تنسى، والتي عبّر فيها بإصرار الفارس عن وفائه لقضية أمته المركزية، بوسائل مختلفة تعلق في الذاكرة إلى الأبد، منها اسهاماته الفاعلة في تسيير القوافل الإغاثية لغزة، وزيارته للقطاع أكثر من مرة، بقدر لا يكاد يقل عن انتمائه لتراب وطنه الطاهر، وانحيازه لقضايا الإنسان، وبذله الجهود الاستثنائية عند وقوع الكوارث الإنسانية، وفي تقديم المساعدة للفقراء والمحتاجين من أبناء وطنه الجزائر العظيم.
بينما يهم بالرحيل، يترك عام 2020 الكثير من طعم المرارة الذي يعلق بالحلق طويلاً، مبدداً من خلال ما خلفه من خسارات وأحداث محزنة صفو الروح، وتاركاً ندبات في القلب والعقل لن تمحى، ستظل الذاكرة تستحضرها بحضور ذكر وطيف الراحلين العظماء من صانعي الخير، الذين استأثروا أن يبقوا جنوداً مجهولين في عملهم، تاركين خلفهم إرثاً عظيماً، وعبرةً، تنتفع منها الأجيال، ترتكز على اعتبار أن الحياة الدنيا ليست إلا فرصة للاستزادة من الأعمال الصالحة التي تدر الثواب والحسنات، ولأداء الواجبات الشرعية، قبل فوات الأوان، ولقول الحق الفصل في ذلك: "أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ".