قلم/ د. شريف الحلبي
لم تبدع أمريكا في صناعة الماكدونالدز والكوكاكولا فحسب، ولم تتلاعب فقط في جينات ومواصفات المنتجات الحيوانية والزراعية، بل تتلاعب أيضاً في عقول البشر لسلخها عن دينها وثقافة الأجداد، والتعبد على المذهب الأمريكي الذي يرفع الشعار الفرعوني (لا أُريكم إلا ما أرى)، إن هذه العملية المركبة والمعقدة التي أسميتها ب "دبلوماسية تغييب العقول" تهدف إلى القضاء على التيار العقلي في الأمة، والذي يرفض الخضوع والتطويع، وبناء التيار النقلي الذي تقتصر مهمته على نقل الأوامر من البيت الأبيض إلى ميدان التنفيذ!، والمشاركة في جريمة تزييف التاريخ والتراث، و طاعة الثعالب الذين يرتدون ثياب الواعظين، بالرغم من تنبيه الشاعر الكبير/ أحمد شوقي لنا بالقول: مخطئٌ من ظنّ يوماً أنّ للثعلب دينا.
إن تمرير هذه الدبلوماسية على أبناء أمتنا يتم عبر أدوات وآليات متنوعة ومتعددة، ومن خلال وكلاء و حلفاء أمريكا في المنطقة، لكن الملاحظ أن أمريكا قد اعتمدت الدين منذ نصف القرن الماضى كأبرز أدوات تمرير هذه الدبلوماسية على الشعوب، وللأسف نجح هؤلاء المستكبرون إلى حدٍ كبيرٍ في خداعنا بسبب جهلنا وعون بعض الحكام الخونة، وبسبب احتكامنا للعاطفة وقلة اعتمادنا على العقل والتحليل والمنطق، فأصبحنا أمةً لا تقرأ تاريخها جيداً، ولا تتعلم من تجاربها السابقة عندما وقعت فريسةً لقوى الاستعمار، وذاقت ويلات مكر وخداع الامبراطوريات المستبدة التي نهبت ثرواتها، وطغت في البلاد فاكثرت فيها الفساد.
إن شواهد الاستدلال على استخدام دبلوماسية تغييب العقول أكثر من أن تُحصى، ولكن من الجيد أن نتوقف عند أبرزها في العصر الحديث، ففي سبعينات القرن الماضي اقترح مستشار الأمن القومي الأمريكي السابق "بريجنسكي" أن يتم إنهاء الحرب البارده مع الاتحاد السوفيتي انطلاقاً من أفغانستان، وتوجيه طاقات الشباب العربي والمسلم بعيداً عن قضيتهم المركزية فلسطين، ليبقى الكيان الصهيوني في مأمن، ووجد الحل في دبلوماسية تغييب العقول، فالهدف سيُنجز على أيدي المجاهدين الإسلاميين والعرب، بحيث يتم صناعة ما يسمى بمشروع (الجهاد العالمي) يتركز الدور الأمريكي فيه على الإمداد بالسلاح والتدريب والخبرات القتالية والاستشارات العسكرية، فيما تقوم السعودية بما تمتلكه من مكانة ورمزية في العالم الإسلامي بمهمة غسيل الدماغ للشعوب المسلمة و للجماهير العربية بواسطة مؤسستها الدينية وماكينتها الإعلامية، وبالفعل فقد تم تنفيذ المخطط الشيطاني، ودشنت المخابرات الأمريكية آنذاك برنامج (سايكلون) لتدريب وتسليح المقاتلين الأفغان والعرب، وأمدتهم بسلاح كاسر للتوازن، وقدمت السعودية ما يقرب من 20 مليار دولار جُمعت معظمها عبر اللجنة الاسلامية للإغاثة، والتي كان يرأسها وقتها ملك السعودية الحالي (الملك سلمان بن عبد العزيز)، واستنفرت المؤسسة الدينية السعودية كل طاقاتها للتعبئة الفكرية والروحية والدينية، لتوجيه طاقات الأمة نحو أفغانستان، في الوقت الذي كانت فلسطين تذبح من الوريد الى الوريد!!، إن كلمات الداعية السعودي الشهير "سعد البريك" الموثقة بالصوت والصورة على قناة اليوتيوب لا يزال صداها يتردد في الآذان وهو يحرض شباب الأمة بالقول: (إن مشاهدتك فيلم من أفلام الجهاد الأفغاني، يصنع في قلبك حياة!!) في الوقت الذي كانت تفوح فيه رائحة الموت من كل أزقة فلسطين، ويشبهه في ذلك الداعية السعودي الشهير/ محمد العريفي الذي طاف كل منابر العرب والمسلمين محرضاً على سوريا ومحور المقاومة، وداعماً "للثوار!!" قاطعي الرؤوس وشاقي الصدور وأكلة الأكباد!، ولم يُحرض ضد الكيان الصهيوني طيلة سنوات دعوته ولو بشق كلمة!
نجحت الخطة الأمريكية، وانسحب المحتلون الروس من أفغانستان، وتفكك بعدها الاتحاد السوفيتي على أنغام طرق كؤوس الاحتفال بالنصر في البيت الأبيض، ودفعت السعودية المليارات فيما تطحن المجاعات دولاً وشعوباً اسلامية، وتم تعزبز وتوسيع التيار النقلي "الإسلامي"، والذي تم توجيهه لاحقاً ضد ايران الاسلامية الصاعدة، وأصدقاء الأمس من "المجاهدين" الذين اجتمع بهم الرئيس الأمريكي السابق "رونالد ريقان" ووصفهم بمقاتلي الحرية أصبحوا أعداء اليوم، وأحرقت جثثهم صواريخ الطائرات والبوارج الأمريكية وألقت معظمها في البحار حيث (انتهت مهمتهم!!).
وقبل عقدٍ من الزمان جاء ثعلب امريكي جديد ببشرةٍ سوداء (الرئيس اوباما)، ليستخدم نفس الدبلوماسية، ونفس الأداة (الدين)، ولكنه أضاف هذه المرة مؤسسات اسلامية وازنة أخرى إلى جانب المؤسسة الدينية السعودية، لإتمام مهمة تغييب العقول بشكلٍ أسرع وأكثر تأثيراً، كانت الانطلاقة مع بداية فترة رئاسته من على منصه جامعة القاهرة، وفي حضرة شيخ الازهر الشريف و رموز إسلامية بارزة، حيث برز الثعلب الأمريكي لهم، ولبث ثياب الواعظين، ووزع مواعظه التي لاقت تصفيقاً حاداً اهتزت له جدران القاعة، وبدأت بعدها فصول المؤامرة، وانطلقت الماكينة الإعلامية العربية والاسلامية في عهد الإعلام الجديد لتُحرض على محور المقاومة، وتبشر بعهدٍ جديدٍ في ظل الرئيس الامريكي ذي الأصول الإفريقية الكينية (ابو حسين!!)، وانضم إلى حملة التبشير هذه المرة تيارات وقادة وزعماء اسلاميون ووطنيون، وعلماء وفقهاء بارزون!
لقد تم تنفيذ مخطط "بريجينسكي" من أرضٍ بعيدةٍ في جنوب القارة الآسيوية (افغانستان)، أما الرئيس السابق (أوباما) فقد أطلق دبلوماسية تغيب العقول من وسط منطقتنا، ومن بين نصوص الكتب الاسلامية التي بين أيدينا وفي مدارسنا وجامعاتنا!! واستخدم في دبلوماسيته ذئاباً بشرية "إسلامية" أكثر توحشاً من مجاهدي طريقة بريجينسكي وروقان وكارتر، حيث تم تعديل جينات مجاهدي أوباما وترويضهم في سجون "غوانتنامو". الهدف كان أكثر وضوحا هذه المرة على أصحاب البصيرة، وأكثر خداعاً للجهلة والمغفلين والبسطاء من أبناء الأمة، وهو شيطنة ايران، وكسر محور المقاومة الذي يشكل خطر وجودي على المشروع الصهيوني، استنفذ (أوباما) وعملاؤه وأذنابه في المنطقة كل السبل والطرق والوسائل والأدوات لتنفيذ مخططهم، حشدوا كل الطاقات والإمكانيات، ودُفعت المليارات، وفي النهايه نجحوا في كل شيء تقريبا الا في كسر محور المقاومة وقلبه النابض سوريا، اخترقوا جدار عقول الكثيرين وبثوا سمومهم فصدقوهم، شوّهوا الشرفاء والأبطال، وقلبوا الحقائق فصدقوهم، وبقيت الصورة واضحة جلية في عين وقلب الشرفاء والأحرار والمستبصرين.
وأخيرا جاء الرئيس الأمريكي المتهور (دونالد ترامب)، وقدّم وقاحته واستكباره وغرور بلاده للعالم بدون لباس الثعالب، وأعلن الهدف واضحاً صريحاً وهو تسييد الكيان الصهيوني في المنطقة، وإدخال الانظمة العربية إلى بيت الطاعة الصهيوني كالعبيد، وسحق محور المقاومه بنار الحرب، وقسوة الحصار، وشيطنه أركانه، ونهب ثروات الشعوب لصالح "الأمة الأمريكية"!!، لقد مارس دبلوماسية تغييب العقول قسراً، فادّعى أن فلسطين هي أرض الشعب اليهودي التاريخية، وأعلن القدس الإسلامية العربية عاصمة الكيان الصهيوني، وفرض على وكلائه وحلفائه القبول فقبلوا!، وجعل نتنياهو يطوف بطائرته فوق مكة والمدينة فيما تكوي سلاسل السجانين العرب معاصم أيادي الخير التي تقدم العون لفلسطين وشعبها المسكين!، وقدّم صفقة قال أنها للسلام والازدهار وهي لا تمس لذلك بأيةِ صلة!!، لقد نجح في تغييب بعض العقول التي لا تتحمل أن ترى صورة القائد الأممي الفذ، وبطل الإسلام في العصر الحديث الشهيد الحاج/ قاسم سليماني، أو تسمع سيرته، بينما تقبل أن ترى العلم الصهيوني يُلوّن برج دبي، ويُعزف نشيد الكيان الصهيوني في الدوحة دون أن تنبس ببنت شفة! .
إننا نواجه معركة وعي خطيرة، يُستخدم فيها ديننا أداة ووسيلة لتحقيق أهداف شيطانية كبرى، إنها معركة تتعلق بمصيرنا ومصير أمتنا، فإما أن نقع فريسة المخططات الأمريكية والصهيونية في المنطقة فنخسر الدنيا والآخرة، ونكون مِعول هدمٍ لحضارة وتاريخ أمتنا، ونعيش عبيداً للمستكبرين، أو أن نتسلح بالوعي والمعرفة فنعيش أحراراً في الدنيا ونشارك في مشروع بناء حضارة أمتنا ونهضتها، والحفاظ على تاريخها المجيد، ونفوز فوزاً عظيماً في الآخرة ان شاء الله.