بقلم: د. وليد القططي
في يوم المرأة العالمي في الثامن من مارس آذار من كل عام، يحتفل العالم بإنجازات المرأة الاجتماعية والاقتصادية، وتُكرّم المرأة على إبداعاتها العلمية والأدبية، وتُطرَح قضايا النساء الجدّية والفعلية، بينما نُذكّر نحن العالم بخيبتنا ووكستنا، عندما نغرق في بحر الجدال العقيم، هل إحياء يوم المرأة العالمي حرام غير مُتاح، أم حلال فهو مُباح؟، وهل الاحتفال بعيد الأم عمل يجيزه الرحمن، أم رجس من كيد الشيطان؟. ولا زلنا نتخاصم في صوت المرأة، إن كان عورة فتصمت، أم نصف عورة فتخفت. ولا زلنا نتشاجر في وجه المرأة، أيجوز كشفه فتلبس الحجاب، أم يجب ستره فيُسدلُ عليه النقاب؟، وما زال الخصام والجدال في استمرار، ما بقي الليل والنهار، حتى يُغيّر العرب ما في عقولهم، أو يستبدلهم اللهُ بمنْ ليسوا أمثالهم، وحتى ذلك الحين ستظل قضايا المرأةِ المُلحة، بعد يومها وعيدها وصوتها ووجهها، هي قضايا التمييز ضدها، وسلبها حقوقها، والعنف المُمارس عليها، ولعل العنف من زوجها أخطرها، ذلك بأنه يبدأ بعنفٍ يسير، وينتهي بقتلٍ شرير، وما جرائم قتل السيدات على يد أزواجهن عنّا ببعيد حيث تكررت هذه الجرائم مراراً في المجتمعات العربية.
واحدة من هؤلاء الضحايا في مجتمعنا الفلسطيني ذهبت ضحية جريمة عنف زوجها، أحد أشباه الرجال ولا رجال، الذي كان بشهادة أم المغدورة "يواظب على ضربها"، وكأنه يواظب على أداء طقوس عبادة شيطانية، نبتت عقيدتها من شجرة ملعونة في المجتمع، وزُرعت بذرتها الخبيثة في عمق نفسه الأمارة بالسوء، ورُويت من مُستنقع آسن ملوثٍ ببكتيريا التصورات المنحرفة والمفاهيم الخاطئة، فأنتجت ثمار الزقوم بطعم الإدمان، ورائحة الجريمة، ولون الانحراف؛ فطوّعت له نفسه قتل زوجته فقتلها، فأصبح من المجرمين، فأُسِدل بذلك الستار على المشهد الأخير الحزين، من مسرحية (الصبر مفتاح الفرج) المأساوية، التي فُرِض فيها على المغدورة أنْ تلبسَ ثوبَ الضحية جبرياً، وتقومُ بدور الزوجة المظلومة والمغلوبة على أمرها قهرياً، بينما اختار فيها زوجها أن يلبس ثوب الجلاد اختيارياً، ويقوم بدور الزوج الظالم الغالب على أمره إرادياً، واحتفظ بعض أفراد المجتمع لأنفسهم بأدوار الكومبارس الهامشية، فمنهم الشهود على الجريمة، وتجاوز بعضهم دور الشهود، فأصبحوا على الجريمة من القعود.
إن كان الستار قد أُسدِل على قصة تلك السيدة الضحية، فإنه لم يُسدل على قصص آلاف النساء المُعنّفات على يد أزواجهن، اللواتي يأخذن معاناتهن معهن في القبر، أو يمتن بصمتٍ مع القهر. ولن تنتهي معاناتهن طالما يعشن مع أزواج يعتبرون ممارسة العنف ضد زوجاتهم أفضل امتيازات الذكورة، ويرْون في ضرب الأُنثى أعلى سمات الرجولة، ويتمتعون بالتسلّط على المرأة وهم في قمة الشعور بالفحولة، ويؤمنون بأنَّ إهانة الحليلة من أسمى طباعهم الجليلة. ولن تنتهي معاناتهن طالما تصم آذاننا فتاوى علماء مدرسة الصحراء، القادمين من مجاهل البيداء، من حيث خرج قرن الشيطان، وُوسِد الأمرُ إلى الغلمان، وامتزجت قسوة صخور الجبال بقسوة قلوبهم، واختلطت شدة حرارة الرمال بشدة تصلب عقولهم، فاكتست مدرستهم وفتاويهم ثوباً دينياً ظاهره فيه الحرص والتدين، وباطنه فيه الغلو والتنطع، فأعطت للرجل حقوقاً فوق حقه، وسلبت من المرأة حقوقاً من أصل حقها، فحوّلت الزواج من عقد شراكة وتعاون بين زوجين، إلى عقد ملكية واستعباد لأحد الزوجين، وقلبت مفهوم الطاعة الزوجية بالمعروف، إلى عبودية طوعية أو جبرية بغير المعروف، وأصبح فيها الصبر والجزع سيان، والاحتساب والاستسلام مثلان.
وكيف تنتهي معاناة النساء المُعنفات من أزواجهن وقد تشّربنَ من أمهاتهن وجداتهِن ثقافةً اجتماعية تضع المرأة في مرتبة دونية أدنى من الرجل، وتُنشّئ البنات على خدمة الأولاد، وفيها سيلٌ جارف من الأمثال الشعبية تُرسّخ قواعد إذعان المرأة لرب البيت حامل ألقاب: حامي الديار، وبطل الشاشة، وأسد الغابة، وشجيع السيما، وسبع البرمبة... فثبتت في أذهان البنين والبنات صورةً نمطية رسمها بقلمه المبدع الأديب الكبير نجيب محفوظ في روايته (بين القصرين) من ثلاثيته الشهيرة، فابتكر نموذج (سي السيد) مجسداً في شخصيته (أحمد عبدالجواد) الزوج المتسلط المستبد، والآمر الناهي، والحاكم المُطاع. وشخصية (أمينة) الزوجة الخاضعة الخانعة، والمستسلمة المستكينة، والمحكومة المُطيعة. وليس للمرأة أمام هذا الإرث الديني والاجتماعي سوى أن تعيش معاناتها بمفردها، وتحبس آلامها في داخلها، وتُسمِع أنينها لنفسها، وتشكي وجعها لربها. ولأنها امرأة فعليها أن تصبر على زوجها بأخطائه وزلاته وانحرافاته وإهاناته وقسوته... وكذلك (قرفه)، وأحياناً عليها أن تتحمل (قرف اللي خلفوه)، وممنوع أن تظهر استياءها أو تقززها كي لا تجرح مشاعره وتحافظ على مشاعر (اللي خلفوه)، وعليها أن تضع نصب أعينها أن الصبر مفتاح الفرج.
الصبر مفتاح الفرج بالتأكيد، والصبر إن كان مطلوباً من الناس عامة، فهو مطلوب من الزوجين خاصة، بقدرٍ متساوٍ، ليحافظا معاً على بُنيان الأسرة قوياً متماسكاً، ليكون المجتمع قوياً متماسكاً، وفيما يخص نصيب الزوجة من الصبر، فواجبها أن تصبر على صعوبات الحياة الزوجية، والخلافات الزوجية الطبيعية، لا سيما في بداية الحياة الزوجية، كما أن من واجبها أن تصبر على ما يصيب الزوج من محنٍ خارج قدراته، وفوق إرادته، ويتعدى حريته، كأن تصبر على فقرِ الزوج بعد غناه، ومرضه بعد صحته، وعُسره بعد يسره، وضيقه بعد سعته، وضعفه بعد قوته، وتدني مكانته بعد علوها، وفقدان وظيفته بعد امتلاكها... وقد تصبر على كل ذلك ابتداءً، فهنا الصبر مفتاح الفرج. ولكن الصبر ليس مفتاح الفرج إذا كان على فعل يقوم به الزوج بمحض إرادته واختياره وقدرته وحريته، وفي استطاعته فعل غيره، فقد هداه الله النجدين، وألهمه السير في أحد السبيلين، وخلقه في أحسن تقويم، فاختار أن يُرد إلى أسفل سافلين، فسلك أسوأ النجدين، وسار في أقبح السبيلين، فكان من المنحرفين المتسلطين، ومارس العنف الرجولي ضد المرأة طقساً يومياً، والإرهاب الذكوري على الأنثى اعتقاداً دينياً، فكيف يكون صبر الزوجة عليه مفتاح الفرج لها.
الصبر في هذه الحالة ليس مفتاح الفرج للمرأة، بل هو مفتاح الأمراض النفسية والعقلية، وباب الاضطرابات العاطفية والسلوكية، والطريق إلى الموت قتلاً أو انتحاراً أو وأداً فوق التراب، وهكذا لن تكون تضحية المرأة، أو بالأحرى التضحية بالمرأة هو الحل المناسب، مع زوجٍ لا يحترمها ويقدرها ويُمعن في إهانتها وشتمها وضربها، لأن في ذلك إهدار لإنسانية وكرامة المرأة، وقد يؤدي إلى إزهاق لروحها وإهلاك لحياتها. وإلى جانب ذلك فإن الزوج والزوجة سيقدمان أسوة غير حسنة، وقدوة ليست بالسوية للحياة الزوجية والصورة النمطية للزوجين، فيتشربها الأبناء بالتقليد الشعوري أو التوّحد اللاشعوري، وبالتلقي المباشر أو الإيحاء غير المباشر، حتى إذا اشتد عودهم وشبوا عن الطوق وتزوجوا أعادوا إنتاج أسر فاشلة بآباء متسلطين وخانعين وأبناء معقدين، وهلم جرا
أما مفتاح الفرج الحقيقي للمرأة والمجتمع فهو يقع على عاتقنا كأهل ومجتمع، فعلينا أن لا نجبر المرأة الزوجة على قبول دور الضحية المغلوبة على أمرها، والصبر على سلوك زوجها المُهين لإنسانيتها وكرامتها، والمؤذي لجسدها ونفسها، والمُدمر لحياتها المادية والمعنوية، والأفضل- بعد فشل كل محاولات العلاج والإصلاح – أن ندعمها لنتخلص من مأساتها وتبدأ حياتها من جديد، بعزمٍ شديد، وأملٍ أكيد، وأُفقٍ بعيد.
ومفتاح الفرج الحقيقي للمرأة والمجتمع هو الاجتهاد المُجدِد للفقه الديني لعلماء الأمة، من أجل إبداع فقه مستنير، ينهض بواقع المرأة والمجتمع، ويطوّر مكانتها ودورها في المجتمع، في ضوء مقاصد الشريعة الإسلامية الكلية وضوابط النصوص الدينية القطعية. والاجتهاد المُجدِد لثقافة المجتمع لمفكري الأمة، من أجل إبداع ثقافة اجتماعية إيجابية تجاه المرأة تجمع بين جوهر الدين وروح العصر، وتبني مفهوم تمكين المرأة لترتقي بذاتها وتتقدم بمجتمعها.