بقلم: حلمي البلبيسي*
في شهر آذار من كل عام نستذكر يوماً مجيداً من أيام شعبنا العظيمة حين تجرأ العدو الغاشم في الواحد و العشرين من شهر آذار عام 68 وبعد اقل من تسعة شهور من هزيمة الجيوش العربية في عدوان الأيام الستة،،تجرأ على اجتياز نهر الأردن للقضاء على الفدائيين الفلسطينيين الذين عاهدوا الله على الصمود في وجه هذا العدو ،لغسل عار هزيمة حزيران التي كان العدو مازال يعيش نشوة سكرتها .
وقبل تلك المعركة التي شكلت منعطفاً تاريخياً في مسيرة الثورة الفلسطينية ، اجتمع قادة الفدائيين ، للاتفاق على قرار بالمواجهة مهما عظمت التضحيات،أو الانسحاب إلى الجبال وتجنب خسائر في الأرواح في وقت كان الثورة وقتها مازالت تتشكل بإمكانيات بشرية قليلة، و معدات لا تذكر أمام ما يملكه العدو من العدة و العتاد.
وكان القرار التاريخي الصحيح هو الثبات في أرض الكرامة و الصمود في وجه العدو و مقاومة عدوانه مهما بلغت التضحيات و الخسائر.
في هذه المعركة هاجم العدو الصهيوني قواعد الفدائيين في الكرامة و على طول نهر الأردن بخمسة عشر ألفاً من الجنود و العشرات من الدبابات و الآليات المدرعة ، إضافة إلى أربع أسراب من طائراته المقاتلة ، ليبدأ في مواجهة صمود أسطوري من الفدائيين الفلسطينيين وإخوانهم من بواسل الجيش الأردني ،سلاحهم عتاد قليل ، وإيمان عظيم بقدرتهم على الصمود وتحقيق النصر ورد العدوان .
وكانت ملحمة الكرامة التي نسج خيوطها الفدائيون الفلسطينيون وجنود الجيش الأردني البواسل منعطفاً تاريخياً أعاد للأمة ثقتها بنفسها و بقدرتها على تحقيق النصر ، وفي هذه المعركة الباسلة التي بدأها العدو في الساعة الخامسة والنصف من فجر ذلك اليوم المجيد، اضطر العدو أمام صلابة المقاومة وصمود المقاتلين من بواسل الجيش الأردني والفدائيين، لطلب وقف إطلاق النار في الساعة العاشرة والنصف صباحا، ولكن المعركة استمرت 15 ساعة تكبد فيها العدو 250 قتيلاً و 450 جريحاً و العشرات من آلياته و مدرعاته المدمرة على طول خط القتال ...
أكدت معركة الكرامة أن عامل النصر الأساسي في أي مواجهة مع العدو هو المقاتل الصادق الذي يقاتل بإيمان بحقه، و تصميم ليس فقط رد العدوان، وإنما تحقيق النصر..
وهنا نعتبر السلاح والعتاد ما هي إلا عوامل مساعدة في حسم المعارك .. فالسلاح بدون إرادة قتال، وعزيمة حديدية على الثبات ورد العدوان والاستعداد النفسي والجسدي والروحي لدى المقاتلين ،ليست إلا أكداس من الحديد، و الدليل أن الآلاف من الدبابات و المدرعات و المدافع و الطائرات تحولت إلى ركام في حرب 67 ، حين غاب الإيمان و الإعداد و التصميم على النصر .
وأمام أهمية إعداد المقاتل المؤمن بحقه، والمستعد دائما للدفاع عن أرضه ومقدساته، والمعد نفسيا وروحيا لتحقيق النصر، ما لنا إلا أن نراجع تجربة يوم الكرامة، وانتصارات غزة في رد ثلاث حروب عدوانية وهي المحاصرة من العدو والصديق، وكذلك تجربة صمود وانتصار أبطال المقاومة الإسلامية في جنوب لبنان..
ومن الشهادات على بسالة المقاومة التي واجهها العدو في تلك الملحمة ، ما تحدثت به وكالة الاسوشييتد برس الأمريكية ، في تقرير لها أن الإسرائيليين تعرضوا لهزيمة كاملة ، نتيجة سوء التخطيط والتنظيم.
كما أشار الكاتب البريطاني ديفيد هيرست ، في كتابه ، ( السلاح وغصن الزيتون، جذور الصراع في الشرق الأوسط ) إلى قوة وصمود الفدائيين الفلسطينيين، والجيش الأردني في الدفاع عن مواقعهم وإجبار العدو على الانسحاب صاغرا ، حيث نقل اعتراف جنرال صهيوني بالتخبط الاستراتيجي الذي عاشته إسرائيل في معركة الكرامة، نتيجة المقاومة غير المتوقعة من الجيش الأردني والفدائيين.
فيما قال "حايم بارليف" ،رئيس اركن جيش العدو آنذاك ، أن إسرائيل فقدت في هجومها على الأردن في معركة الكرامة ، آليات عسكرية ، تعادل ثلاثة أضعاف ما فقدته في حرب حزيران عام ١٩٦٧، وأضاف ، لقد كانت معركة الكرامة فريدة من نوعها ولم نتعود على هذا النوع من العمليات.
ومن أيامنا التاريخية يوم الأرض المجيد في الــ 30 آذار حين خرج شعبنا العربي في الجليل و المثلث رفضاً لقرار العدو الاستيلاء على 21 ألف دونم من أراضيهم في بلدات عرابة و سخنين و دير حنا و عرب السواعد لإقامة مستوطنات يهودية عليها أو لتوسيع مستوطنات قائمة فيها، حيث هبت جماهير شعبنا رفضاً للقرار، ومقاومة لإجراءات العدو ليسجل في تاريخ نضاله البطولي صفحة جديدة من الصمود و التصدي، و للتمسك بحقه في أرضه ، ورفض الإذعان لقوانين المحتل الجائرة .
في يوم الأرض عام 1976 ،ارتقى إلى الجنة بإذن الله ستة شهداء خلدوا أسماءهم في سجل الشرف و الفداء إضافة إلى عشرات الجرحى، في هذا اليوم، قدم شعبنا الدليل على أن سبيل التحرير والاستقلال هو المقاومة ومواجهة العدو، و لو بالصدور العارية، وليس بالمفاوضات العبثية التي لم تنجح إلا بمضاعفة المستوطنات و المستوطنين على أرضنا المحتلة في الضفة المحتلة.
إن صراعنا مع العدو الصهيوني هو صراع وجود وليس خلافاً على حدود بين دولتين، فالعدو الذي احتل فلسطين في ظل الخلل في موازين القوى في تلك الفترة و تقاعس النظام الرسمي العربي عن نصرة شعبنا و الدفاع عنه ، يريد الأرض يهودية خالصة مفرغة من أهلها و أصحابه االشرعيين .
و ما يجري هذه الأيام في أم الفحم الباسلة من إشعال العدو لنار الفتنة الداخلية من خلال دعم و إدارة عمليات القتل والجريمة المنظمة في أم الفحم و بقية بلدات الجليل والمثلث إلا محاولة منه لتفجير نزاعات أهلية تنقل الصراع من صراع مع المحتل إلى قتال داخلي لترويع الناس و إجبارهم على الانشغال بخصوماتهم الداخلية ، بدل مقاومة و حماية حقهم في العيش على أرضهم و في وطنهم .
وهذا الذي يحدث في الشيخ جراح من قرارات صهيونية جائرة لتفريغها من أهلها وسكانها ،إنما هو جزء من المشروع الصهيوني لتفريغ القدس من أهلها الفلسطينيين، في ظل غياب تام لأي جهد أو حماية رسمية فلسطينية أو عربية، تدفع عن سكان الشيخ جراح هذا الخطر القادم.
في تاريخ مقاومتنا للعدو المحتل محطات كثيرة كان منها ملحمة مخيم جنين البطولية، والتي شكلت بصمود أبطالها، منعطفا هاما حيث قاتل أبناء المخيم بقيادة مجموعة من الشباب الذين آمنوا و صدقوا الله ما عاهدوا عليه ، قتالاً بطولياً واجهوا خلاله وهم العشرات، الآلاف من جنود العدو المعززين بالعشرات من الدبابات والآليات العسكرية والطائرات صمد هؤلاء الشباب و قاتلوا ببسالة وفروسية ورفضوا رفع الرايات البيضاء طلباً للسلامة حتى استشهدوا جميعاً ليتركوا لنا إرثاً من المآثر المنيرة يهتدي بها شعبنا و أجيالنا حتى دحر الاحتلال و تحقيق النصر ان شاء الله
في آذار ليس حالة فريدة من البطولة و الاستشهاد في تاريخ صراعنا مع العدو الصهيوني بل هو صفحة في سجل حافل لكل الشهور والسنين ، يؤكد على أن الأوطان لا تحررها إلى القلوب الجسورة ، والأرواح التي تشتاق إلى الجنة و التي تطلب الشهادة مقبلة غير مدبرة .
ولعل تجربة ثلاثة عقود من المفاوضات والمناورات والتكتيكات، لم ينبت زرعها إلا المزيد من المستوطنين والمستوطنات، والتفريط بالحقوق ، والتنازل عن ثوابت الأمة التي قضى من شعبنا عشرات الآلاف من خيرة شبابه ، حماية لها ، وصونا لطهرها، وأملا في تحقيق العودة والتحرير ، وإقامة دولتنا الحرة المستقلة على كامل التراب الوطني الفلسطيني، وإنهاء المشروع الصهيوني التوسعي الاستيطاني بكل أشكاله ، العسكرية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية.
إن نضال شعبنا منذ قرن من الزمان ، وتضحياته الجسام ، لم تكن من اجل تحسين شروط العيش تحت حراب الاحتلال، ولم تكن من اجل مكتسبات مدنية في التعليم والصحة ، وغير ذلك، ولم يكن رفضا للتمييز العنصري الصهيوني ضد شعبنا ، أصحاب الأرض الشرعيين ، بل كان دائما من اجل دحر الاحتلال، وإلغاء وجوده على الأرض الفلسطينية بكل أشكاله وتمظهراته وتحقيق العودة الكريمة لشعبنا الر أرضه ووطنه.
لقد ذهب المفاوضات العبثية بالكثير من منجزات الشعب الفلسطيني التحررية ، وأنا استمع إلى تصريحات قادة مشروع اوسلو المشؤوم، يخطر في بالي هنا .. لو بعث الله فينا هذه الأيام، شهداء مئة عام من المقاومة والاستشهاد ضد الاحتلال البريطاني والصهيوني وشاهدوا ما أنجزته سلطة اوسلو، وقياداتها المفاوضة ترى ماذا سيقولون؟ بل ماذا سنقول لهم نحن حين يسألونا عن الأمانة التي إاتمنونا عليها؟ بل ماذا سنقول لأمهاتهم وزوجاتهم وأبنائهم؟
ماذا سنقول لوالدة الشهيد البطل باسل الأعرج ، مهند الحلبي وأمهات وعائلات احمد جرار ، وبهاء وابراهيم وعمر والعشرات من شهداء انتفاضات شعبنا في القدس والضفة المحتلة،،ماذا سنقول لشهداء يوم الارض المجيد؟ ثم بماذا سنبرر لمن سبقهم من الشهداء القادة، ابو حسن وحمدي ومروان وعلي؟ ماذا سنقول لهديل الهشلمون ، ورفيقاتها من ماجدات فلسطين وزهراتها التي قضت دفاعا عن حقنا في الحرية والاستقلال؟ ماذا نقول لأسيراتنا في سجون العدو وأسرانا الذين ضحوا بشبابهم خلف القضبان ، وشعارهم ، الموت ولا الدنية؟
هل نقول لهم أننا كنا مخطئين حين قاومنا دفاعا عن أرضنا وعرضنا ومقدساتنا ، وأن تجربة كل الشعوب التي ناضلت قبلنا وحققت النصر ، كانت تجارب خاطئة، وانه يمكن التعايش مع الاحتلال، الذي لم يعد هو العدو، الذي احتل الأرض ودنس المقدسات، وقتل وهجر شعبنا، وأننا كنا مخطئين طيلة تلك السنين، لأن عدونا أصبح جارا، نعترف له بحق ليس له،، ونتنكر لحقنا في المقاومة، ونتنازل عن حق العودة، وان شعارات ثورتنا، وقوانين كل الثورات عبر التاريخ والتي تقول بحق الشعوب في المقاومة ، لتحقيق حريتها ، كانت هذرا، واضغاث أحلام ، استبدلناها بشعار، الحياة مفاوضات.
إن حقنا في المقاومة لتحرير فلسطين حق ثابت ، في قوانين السماء والأرض ، لا نتنازل عنه، مهما غلت التضحيات، وتكالب على مقاومتنا وشعبنا المتآمرون والخونة، وان قولنا الفصل لمن يقول، يكفي شعبنا معاناة ودماء ،، وبذل وتضحيات، ولنتفاوض مع السارق المحتل، لعله ينعم علينا ببعض الفتات من موائد المفاوضات، نقول لهم ، أن شعارنا الذي لا نحيد عنه "والله لو وضعوا الشمس في اليمين ، والقمر في الشمال، على أن نترك حقنا ، أو نتخلى عن أرضنا، ومقدساتنا ، وان نوقف نضالنا المشروع لتحقيق التحرير والعودة ، لن نفعل ، حتى نحقق النصر المبين على عدونا، أو نرتقي شهداء ونحن على ذلك قائمون بإذن الله...
ختاماً لأهلنا في القدس ،عاصمة فلسطين الأبدية ، للمرابطات والمرابطين على ترابها الطاهرو أقصاها المبارك،،الذين كلما زاد بطش العدو الغاصب و إرهابه زاد تمسكهم بأرضهم و مقدساتهم ولم يبخلوا يوماً في تقديم قرابين الفداء، دفاعاً عن عروبة مدينتهم و حماية لأقصاهم المبارك و كنيستهم المقدسة ..
ولأهلنا في غزة العزة والكرامة الذين سطروا بصمودهم الأسطوري طيلة عقد و نصف من الزمان ملحمة بطولية عزّ مثيلها في التاريخ غزة التي دافعت في ثلاث حروب عن شرف و كرامة هذه الأمة التي هزمها حكامها قبل أن يهزمها العدو الغاصب .
وإلى أهلنا في الضفة الغربية المحتلة من العدو الصهيوني الإرهابي النازي من جهة، و من قيادة رضيت الدنية في دينها ودنياها فمارست عليهم فعل الاحتلال بطشاً و تنكيلاً حماية للمحتل الغاصب ان تناله سهام المقاومة حفاظاً على مصالحهم ومكتسباتهم.
وإلى أهلنا في فلسطين المحتلة عام 48 الذين ضربوا جذورهم في الأرض المباركة و رفضوا الخضوع لسياسات العدو الاجتثاثية ، التي حاولت طيلة سبعة عقود من الإرهاب الصهيوني فك ارتباطهم المقدس بأرضهم و مقدساته ، و تحملوا في سبيل ذلك إجراءات العدو التعسفية التي أرادت تحويلهم في أرضهم و وطنهم إلى مواطنين من الدرجة العاشرة و كأنهم لاجئين مؤقتين على هذه الأرض أو عابري سبيل لا أصحاب أرض شرعيين على مدى آلاف السنين .
والى أهلنا القابضين على الجمر في مخيمات اللجوء ، والذين ما زالوا يعيشون حلم العودة إلى ديارهم بالرغم من عشرات السنين من غربة المخيمات.
لفلسطين أيام مجدو عز وكرامة ، خلدها التاريخ منذ قرن أو يزيد ، فشعبنا الفلسطيني،و بالرغم من تواتر النكبات و الاحتلالات ، ما هان و لا استكان و لا تخلى عن حقه في وطنه ، فثوراته التي تمتد من بدايات القرن الماضي و حتى يومنا هذا تؤكد استعداده الدائم لتقديم التضحيات رخيصة دفاعاً عن وطنه و دفعاً للعدوان و الاحتلال الذي تكرس فقط بفعل الخلل في موازين القوى في ذلك الوقت ، و بسبب تواطئ بعض النخب السياسية العربية و إبرامها صفقات عار و ذل مع المحتل البريطاني و الحركة الصهيونية حماية لعروشهم و طمعاً في حماية الغرب الامبريالي لأنظمتهم غير الشرعية .
*عضو الأمانة العامة لفلسطيني الخارج