يُروى أنَّ أعرابياً كانَ يرعى الإبلَ لقومهِ، فهاجمتْهُ عصابةٌ من قُطّاعِ الطرقِ، واستولتْ على الإبلِ دونَ أنْ يفعل شيئاً، سوى صعود تلة لينهال عليهم شتماً، حتى ساروا بعيداً بالإبل، ولمّا عاد إلى قومهِ سألوهُ عن الإبلِ فروى لهم ما حدث، وعندما استفسروا عما فعله لمنعهم من الاستيلاء على الإبل، أجابهم: "أوسعتهم شتماً وساروا بالإبل"، فذهبت مقولته مثلاً يُقال لكل من تقصر يده بالفعل ويطول لسانه بالقول، فينطلق بالشتم والسب والطعن والقدح واللعن... ولكل من يظن أنّه فعل بلسانه مالم يستطع فعله بيده، ولكل من يُوهم نفسه أنّه فعل الشيء لمجرد أنّه قاله، ولكلِ من اكتفى بما يقوله ليكون بديلاً عمّا يُفترض أن يفعله، ولكل من لا يملك غير شتم الناس أحياءً وأمواتاً، ذُكراناً وإناثاً، بحق أوبغير حق فالأمر سيان، وفيه قولان.
ظاهرة الشتم تحدّث عنها المفكر السعودي عبدالله القصيمي في كتابه (العرب ظاهرة صوتية) تحت عنوان (اللغة بلا موهبة.. أقبح أنواع الاستفراغ)، فقال: "أردأ صيغة لأردأ كائن هو الجهاز الذي لا يوجد جهاز آخر يساويه أو يشبهه في استفراغه لكل أنواع الفُحش والقدح والسباب والغباء والنذالات والأكاذيب والفضائح بكل أحجامها وألوانها وأصواتها... وهل يمكن أن تكون هذه الصيغة إلاّ في ذات اللسان العربي... إنَّ مثل هذا اللسان لن يكون حينئذٍ إلاَّ تفجّراً مستمراً بكل القبح والفضح والبلادة والنذالة والفحش، وبكل أنواع وأساليب السوء بلا أي قيد أو ضبط". وقال عن صفة الصراخ الصوتي للعرب في مرحلة الهزيمة: "إنَّ العربي ليرفض الصعود إلى الشمس ممتلكاً لها إنْ كان ذلك بصمت؛ ليختار التحدث بصراخ ومُباهاة عن صعوده إلى القمر وامتلاكه له بلا صعود ولا امتلاك".
هذه القسوة في التعبير عن الفواحش الكلامية عند العرب كما وصفها القصيمي في النصف الثاني من القرن العشرين، وجدت مصداقاً لها في النصف الأول من القرن الحادي والعشرين، على صفحات التواصل الاجتماعي الإلكتروني المختلفة المليئة بالسوء من القول، بعد أنْ أصبحت تلك الفواحش اللغوية أكثر سهولة، وأسرع سيولة، وأعمق سفاهة، وأشد رعونة، وبعد أن اخترع (الكفار)الشبكة العنكبوتية العالمية؛ ليستخدمها (المؤمنون) في شتم ولعن وتكفير بعضهم بعضاً... فكان العربُ – حسب الدراسات والإحصائيات- أكثرَ الشعوبِ ثرثرةً على منصات التواصل الاجتماعي الإلكتروني والهواتف الذكية؛ لأنهم أقل الشعوب عملاً وإنتاجاً وإنجازاً، وثرثرتهم معظمها تدور: بين إشاعات كاذبة ومسبّات لاذعة، أو تعليقات مسيئة وشتائم بذيئة، أو قُبح فاضح وسوء طافح، أو هجو مهين وهمز لئيم. بينما كانت الشعوب الصناعية، وفي مقدمتها الشعبين الألماني والياباني أقل الشعوبِ ثرثرةً على تلك المنصات والهواتف؛ لأنهم أكثر الشعوب عملاً وإنتاجاً وإنجازاً، وبالتالي أقلها جهراً بالسوء من القول.
حالة الثرثرة اللسانية والضجيج الصوتي، لا سيما الفارغ والقبيح منه، شتماً ولعناً، تُصيب الأمم والشعوب في مراحل هزيمتها وانكسارها، وأزمنة تراجعها وانحدارها، عندما يضربها العجز والكسل، ويقعدها الوهن والفشل، وعندما تستبدل العمل بالقول، والتجديد بالتقليد، والإبداع بالاتباع، والرحمة بالقسوة... فتلجأ إلى التعويض النفسي عبر عالم الكلام تعويضاً لا شعورياً لما عجزت عنه في عالم الأفعال، بطريقة الهروب إلى الأمام، والعيش انتظاراً لمستقبلٍ غير أكيد، أو الهروب إلى الخلف، والعيش عالةً على أمجاد ماضٍ تليد. أو الهروب داخل أعماق النفس لاستخراج منها ما دُفن في زمن الهزيمة والعجز، وما تراكم من عصور الاستبداد والفساد، من غضبٍ وكبتٍ وضغطٍ وإحباطٍ، فتساعدها اللغة المنطوقة والمكتوبة على التفريغ الانفعالي لإخراج أبشع ما بجوفها من طاقة الغضب الوحشية، ومخزون العُقد المكبوتة، وثقل الضغط المُتراكم، وشدة الإحباط المُتكدس... فيعطيها التفريغ الانفعالي شعوراً وهمياً بالراحة، وإحساساً مُفتعلاً بالطمأنينة؛ فتخلد إلى الدعة والسكينة؛ حتى يستبدلها اللهُ بغيرها ممن ليسوا بأمثالها.
آن الأوان لإعادة النظر في أساليب اللعن والطعن والشتم والسب وكل الفواحش اللغوية التي يتبعها البعض على مواقع التواصل الاجتماعي الإلكتروني، ضد مخالفيهم وخصومهم وحتى أعدائهم، وضد الشخصيات التي لا تعجبهم، أو المُثيرة للجدل بحق أو بغير حق، لا سيما ممن توفاهم اللهُ ومضوْا إليه بأخيارهم وأشرارهم؛ فالكلام المُسيء الفاحش لا يُثبت صواباً أو ينفي خطأً، ولا يُظهر حقاً أو يُزهق باطلاً، ولا يُقنع صديقاً أو يُفحم خصماً. والعكس هو الصحيح فقد يزيد الخلاف والخصومة والعداوة، ويبعد الناس عن الحق والصواب، ويقربهم من الباطل والخطأ، فضلاً عن أنه سلوك منهي عنه في القرآن الكريم، بقوله تعالى : "وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ"، ومنهي عنه في السُنّة النبوية، لقوله صلى الله عليه وسلم " ليس المُؤمِنُ بالطَّعَّانِ ولا اللَّعَّانِ ولا الفاحشِ ولا البَذيءِ". والمنهج الإسلامي الحضاري في مواجهة الآخرين داخل الدائرة الإسلامية أو خارجها يعتمد على المواجهة بالأدلة والبراهين لقوله تعالى: "قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ" وعدم اتباع منهج مشركي قريش في اللغط الباطل من القول، الذين قالوا لبعضهم البعض " لَا تَسْمَعُوا لِهَٰذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ".
هذا المنهج الإسلامي في البُعد عن الكلام الفاحش البذيء، وترك السب والشتم، لا يعني تمييع المبادئ والمواقف، أو إلباس الحق بالباطل، أو مزج الصواب والخطأ، كما لا يعني الضبابية في الحكم على الأفكار المُخالفة للإسلام، أو المجاملة في تقييم الشخصيات المُعادية للإسلام، وهو بالتأكيد يعني تسمية الأشياء بمسمياتها إيجاباً أو سلباً، والتصدي لأصحاب الأفكار الضالة والمذاهب المنحرفة؛ فالدفاع عن الإسلام واجب على كل المسلمين على قدر استطاعتهم وقدراتهم، دون أن نخلط بين فهمنا للإسلام والإسلام نفسه، كي لا نجعل اجتهادنا في فهم الإٍسلام هو الإسلام نفسه، فنخرج غيرنا من الإٍسلام بغير حق، وبهذا المنهج الإسلامي الحضاري البعيد عن الشتم المُعبر عن التفريغ الانفعالي والإفلاس الحضاري والأخلاقي نستطيع أن نمسك عصا موسى - عليه السلام - التي تلتهم حيات الزيف والضلال والكفر.