غزة

19°

وكالة شمس نيوز الإخبارية - Shms News || آخر أخبار فلسطين

الفرحة فرحتين: فرحة الانتصار وفرحة الإفراج

عطاف عليان (4).jpeg
قلم/ عطاف عليان

وقف مشدوهًا فاغرًا فاه، أيعقل ما أسمع وأنا الذي أحمل لهن الحرية!!

لم تصدق أذني مدير سجن الشارون الرد الهادر الذي خرج دفعة واحدة من ثلاث وعشرين حنجرة نرفض الإفراج المبتور الذي استثنيتم منه خمس أخوات إما معًا وإما هذه بضاعتكم ردت إليكم.

كان ذلك عام 1995م في معتقل الشارون الذي أقامه المحتل الصهيوني على أرض الطيرة العربية في الداخل الفلسطيني، ثماني وعشرون أسيرة فلسطينية يقبعن فيه بتهمة مقاومة الاحتلال، كنت واحدة من الخمس أسيرات اللاتي تم استثنائهن من قائمة الإفراجات التي أقرها الكنيست الإسرائيلي (البرلمان) بعد اتفاق طابا 9/1995م والذي جاء بعد عدة معاهدات لم يتم ذكر الأسرى فيها على اعتبار أنه من البديهي أن يُفرج عن الأسرى بعد هكذا معاهدات، أفرج الاحتلال عن عدد من الأسرى الذين شارفت محكوميتهم على الانتهاء وكذلك على أسرى جنائيين كبادرة حسن نية وليس كحق طبيعي لهم.

معتقل الشارون يشغل مساحة كبيرة من أراضي الطيرة الجميلة التي يعبق هواها بشذى البرتقال ورطوبته تنبئك عن مدى قربنا من ساحل المتوسط، تألف من أقسام كثيرة ضمت الجنائيين اليهود والأشبال الفلسطينيين ولأول مرة الأمنيين الفلسطينيين الذين تم نقلهم بعد معاهدة أوسلو من المعتقلات التي جثمت على أرض الضفة والقطاع.

قسمين اثنين خصصا للأسيرات الفلسطينيات أحدهما للزهرات دون سن الثمانية عشر، إلا أنه وبعد حرب الخليج وحصار الانتفاضة تقلص عدد الوافدات وأفرج عمن انتهت مدة محكوميتهم.

كل قسم تألف من ثماني عشرة زنزانة تتوزع على طابقين، تتوسطه ساحة محاطة من كل جوانبها ومن سمائها بسياج كثيف، نخرج إليها ساعتين إلى ثلاث ساعات يوميًا، الزنازين منها أربعة تتسع لثلاث أسرة، كل سرير من طابقين أي تتسع لست أسيرات، اقتطع من مساحتها للحمام إضافة إلى مغسلة متعددة الاستعمالات على بابه الذي أغلق بستارة بلاستيكة تسمح بروائحه باحتلال فضاء الغرفة مع كل استعمال له، باقي الزنازين تتألف من سرير على طبقتين أي تتسع مساحتها لأسيرتين اقتطع أيضًا من مساحته للحمام، صممت الزنازين بطريقة تكثر فيها الزوايا لربما أكثر من ثماني زوايا في الزنزانة الواحدة أدت مهمتها في إثارة التوتر الدائم في سلوكنا الذي حاولنا قهره بكثرة النظر في الكتاب مصدر غذائنا الدائم وصديقنا الذي لا يفارقنا.

بعد معاهدة أوسلو عام 1993م بين منظمة التحرير الفلسطينية والاحتلال الصهيوني بغض النظر عن مدى الرضى عنها سادت حالة من الانتظار للانفكاك من قيود الأسر، مما خلق حالة من البلبلة في الأنظمة والقوانين التي شكلها مجموع الأسرى لتسيير حياتهم اليومية، تحللنا من الجلسات الثقافية والسياسية والدينية والتنظيمية التي كانت تشغل مساحة واسعة من نهارنا، أصبحت أسماعنا تتشنف الأخبار لعل أحدها ينقل خبرًا يسعدنا.

طالت حالة الانتظار المخيبة للآمال، لكنها صنعت حالة أخرى من التحلل من القيود الوهمية التي فرضتها الفصائلية على عناصرها، فقد كان كل فصيل يخشى على عناصره من تأثير الفصائل الأخرى، كان في حينه ثلاث فصائل رئيسية فتح، الجبهة الشعبية، الجهاد الاسلامي حيث أصبحت المساحة أوسع لاختلاط العناصر ببعضها البعض، تحولت العلاقة إلى إنسانية أكثر منها حزبية. أذكر في حينها الرسالة التي أرسلتها لمياء معروف موجه حركة فتح والمحكومة مدى الحياة إلى قادة فتح العائدين من الشتات: "كيف لقائد أن يرضى لنفسه العودة دون جنوده".

كانت الفصائل تنظم شؤون السجن من خلال لجان تنظيمية تضم مندوب عن كل فصيل أبرزها اللجنة الوطنية والإسلامية ولم تكن القرارات تصدر بسهولة؛ لتمترس كل فصيل في تمرير رأيه ولو على حساب المصلحة العامة أحيانًا.

تلت أوسلو معاهدة القاهرة عام 1994م ولم يكن للأسيرات نصيب منها..

عام 1995م قررن الأسيرات الإضراب عن الطعام إضرابًا سياسيًا موجهًا بالدرجة الأولى إلى المفاوض الفلسطيني الذي لم يولي قضية الأسرى والأسيرات اهتمامًا بدرجة كافية لتحريرهم، علمًا أن عمليات التبادل كفلت تحررهم، فعن أي سلام يتحدثون، وقد أوتيت ثماره في اتفاق طابا من نفس العام.

وسائل الاعلام تناقلت إقرار الكنيست الصهيوني على الافراج عن ثلاث وعشرون أسيرة من أصل ثماني وعشرون، وتم ذكر الأسماء اللاتي لن يفرج عنهن وهن: لمياء معروف ومي الغصين اللواتي يقضين حكم المؤبد من فتح، رولا أبو دحو تقضي حكم خمس وعشرون عامًا من الجبهة الشعبية، عبير الوحيدي سبعة عشر عامًا من فتح، وأنا خمسة عشر عامًا من الجهاد الإسلامي.

نغص الاستثناء على فرحة بقية الأخوات وأصبحت النقاشات تتمحور حول وضعنا فيما لو بقينا وحدنا، تعالت أصوات ترفض الإفراج إما الجميع وإما لا، وتزايدت الأصوات المؤيدة لهذا الرأي ودون إشراكنا نحن المستثنيات، اجتمعن واتخذن قرارًا موحدًا يقتضي رفض الخروج بدوننا.

كل ذلك كان قبل أن نخبر رسميًا من إدارة السجن بالخبر اليقين إلى أن جاء يوم الأحد 08/10/1995م حيث نادت السجانة على الأسيرة زهرة قرعوش ممثلة الأسيرات لدى الإدارة، أخبرتها أن مدير السجن سيجتمع بنا في الساحة، وفتحت الأبواب وأغلق علينا باب الساحة إلى أن جاء فرعون وجنوده، نزلوا إلى الساحة، القائمة بيده يحاول أن يتباطأ في تلاوتها ليرى ردود أفعالنا.

لم يجد ضالته في وجوهنا الغير متلهفة لم سيتحدث به، فآثر أن يهرب إلى الورقة التي حملت أسماء ثلاث وعشرون أسيرة. رد الجميع: والباقي؟ قال: سيبقين في الأسر. إذا سنبقى جميعًا، لم يصدق أن ما صدحت به حناجرهن هو قرار حقيقي قد اتخذنه مسبقًا.

فكرن جيدًا وأرسلن الخبر مع السجانة، خرج من الساحة وعيونه لا تفارق من فيها، تعالى صوت الزهرة رنا أبو كشك، صاحبة الصوت الجبلي بأغنية الفلسطيني وليد عبد السلام "حنا القرار بنصنعه ما حد بمنعنا، احنا الوفا لأجل الشعب هو اللي بيدفعنا...." وخلفها تردد الأخوات حنا القرار بنصنعه.

لم يستطع الصبر حتى تأتيه السجانة بالخبر، عاد مرة أخرى، نادى على الممثلة، مررت له الجواب..، قال متلعثمًا: كيف؟ ولماذا ترفضوا الخروج؟ اليوم انتوا وبكرة هم.

جوابنا واضح نبقى معًا ونخرج معًا.. أنت ما بدك تروحي لأولادك، حرام عليك، والأهل هل سيرضوا بقراركم.. نحن هنا من نقرر ردت.

بدأ استعمال سياسة العصا والجزرة، نحن سنخرجكن بالقوة، هذا قرار حكومة ويجب أن ننفذه.

ونحن أيضا قرارنا واضح..

في اليوم التالي خرجنا للساحة، اجتمعت اللجنة الوطنية والإسلامية، ناقشنا موضوع إخراج الأسيرات بالقوة، وتوصلنا جميعنا لقرار الاعتصام في غرفتي (1) في الطابق العلوي و(18) في الطابق السفلي كونهما الأوسع، قسمنا العدد على الغرفتين، كان على ممثلة المعتقل زهرة قرعوش أن تقوم بإلهاء السجانة التي تراقبنا من وراء الزجاج، بالمقابل وكون أبواب الغرف بقيت مفتوحة فعلى الأخوات أن ينقلن فراشهن وبعض احتياجاتهن الضرورية وما يملكن من طعام إلى الغرف المقرر الاعتصام بها.

قامت الممثلة بدورها على أكمل وجه حيث أشغلت السجانة بمطالب كثيرة كانت كفيلة للأخوات بالتحرك وإنجاز مهمة النقل، وعند انتهاء ما يسمى بساعة النزهة دخل الجميع الغرفتين، كان من نصيبي غرفة (1)، أغلقنا الباب بما هو متاح من أسرة وخزائن وجلسنا أيضًا خلفها.

كنا قد جهزنا رسالة لمدير السجن نطالبه فيها بعدم استعمال القوة ضد الأسيرات، وعدم إخراجهن إلا بإرادتهن، سلمتها الممثلة للسجانة، فما لبثنا إلا ومدير السجن يرغي ويزبد، أمر الضباط بقطع الماء والكهرباء حتى نفتح الأبواب ووضع ساتر على النوافذ، مما أغرقنا في ظلام دامس لكننا قررنا الرد بعدم الوقوف على العدد وعدم إظهار أنفسنا لضابط العدد، وبعد محاورات مع الممثلة توصلت لإعادة الكهرباء والماء مقابل أن تقف كل أخت ينادى عليها على السرير؛ ليراها الضابط.

مضت الليلة الأولى بسلام مع السجان لكن تجلت المشكلة داخل الغرفة فكيف لمساحة تكاد تضيق على ست أسيرات تختلف طباعهن رغم انتماءهن لنفس الفصيل حيث كانت تتوزع الأخوات على الغرف وفق انتماءهن ليتسنى لكل فصيل تعبئة عناصره بطريقته الخاصة وكان ذلك قد تم تحقيقه من خلال خوض إضرابات عديدة فكيف ستتسع لخمس عشرة أسيرة؟ كيف ستحل مشكلة النوم فالأرض لا تتسع سوى لفرشتين؟ وهل سنتحمل ضغط وكثرة استعمال الحمام؟ الأعصاب مشدودة والنفوس متوترة وكأن كل يحدث نفسه، سأصرخ على السجانة لتخرجني من هنا، جلست أنا ولمياء ورولا مسؤولات الفصائل واتفقنا على أن يتم توزيع المهام بحيث نشكل عدة فرق لمراقبة تحركات الإدارة وذلك على مدار الأربع وعشرون ساعة، في كل مناوبة تعتلي أختين لمراقبة غرفة الإدارة، عدد من الأخوات يتسامرن والباقي ينام لمدة زمنية لا تتعدى الأربع ساعات؛ لتخلي المكان لأخريات وهكذا حتى تأخذ جميع الأسيرات قسطًا من الراحة.

أيضًا ابتعاد الأحاديث عن المواضيع الحزبية؛ لمنع حالة الاستفزاز وتحويلها إلى حوارات اجتماعية ثقافية تهم الجميع. توزيع ما تم جمعه من مواد غذائية بطريقة تضمن الاستفادة منه لأطول فترة ممكنة حيث توزع وجبات قليلة استفدنا منها أيضًا في التقليل من استعمال الحمام.

خفت حدة المناوشات وأصبحت حلقات السمر تجمع بين الأخوات، يتحدثن عن حياتهن في الخارج، عما يحببن وعما يكرهن، عن دراستهن، أحلامهن، أبناؤهن. هذه الأحاديث قربت ما بين القلوب، أصبح السرير الواحد يتسع لأربعة أو خمسة أخوات دون الشعور بالكدر، فعندما تتسع القلوب يتسع المكان، كان ذلك درسًا من أهم الدروس التي تعلمناها في هذه التجربة.

أصبحت النكتة تلقى صداها لدى الجميع، وأصبحت المواهب تكشف عن نفسها، قلت الأوامر والنواهي وأصبح الجميع يود إسعاد البقية، أصبح للتضامن معنى أسمى.

في اليوم الثالث للاعتصام وبعد العدد الصباحي نبهت الفرقة المناوبة عن تحركات غريبة، امتلأت ساحة السجن بالضباط والسجانين والسجانات حمالات مرضى، أنبوبات غاز التي تستعمل حين يقمعون الأقسام، بعد فترة ليست بالطويلة نادت الممثلة من الشباك تخبرنا عن نية الإدارة اقتحام الغرف بالقوة في حال لم نخرج بإرادتنا، الجميع رفض الانصياع، الشهادة عنوان المرحلة، قامت الزهرات في غرفة (18) بدهن أنفسهن بزبدة المرجرين وهددن أنهن سيحرقن أنفسهن في حال اقتحموا الغرف.

بدوري كنت دائمًا أردد آيات الحرب، قلت للأخوات رددوا خلفي، تلوتها آية آية، ودعوت دعاء المفتقرين إلى الله، بدأنا نرى اتصالات وأصوات غاضبة، بدأ السجانون على أثرها يخلون المكان، لم نعرف حيثيات ما حصل ولكن علمنا أن عناية الله تحرسنا.

مر اليوم على خير، كنا نرفض استلام الوجبات من الإدارة؛ لأن هذا يستدعي فتح الباب، اكتفينا بما لدينا وآثرت عدد من الأخوات الصيام. كنا نتواصل مع غرفة (18) عبر النافذة حيث نتبادل الخطط والبرامج خلال اليوم.

كانت إحدى الفقرات الجميلة التي تبادلناها فقرة الرسائل؛ لعلمنا أن أجمل اللحظات تكون استلام الرسائل من الأهل، صرخت رولا البريد وصل، البريد وصل، عبر فتحات الشبك دلت إحدى الأخوات خيطها البريدي؛ لإيصال الرسائل التي كتبناها للأخوات في الغرفة الأخرى، وكذلك وصل بريدهم إلينا. كانت رسائل تشحن العواطف، تحمل نكتة أو نهفة مما يحصل عندهن، كل يوم له نكهته الخاصة ومذاقه الخاص، رائحة الصمود لم تفارق أيام الاعتصام العشرون.

الأحداث تسارعت في الخارج، اتسعت رقعة التضامن معنا، تشكلت لجنة من الأمهات ترأستها أم عبير الوحيدي، الضغط ازداد على أبو عمار يطالبونه بالتدخل للإفراج عن جميع الأسيرات، وفد من قبل السلطة زارنا تشكل من سفيان أبو زايدة وهشام عبد الرازق وآخرين، أوصلوا رسالة من قبل أبو عمار تطالب بإنهاء الاعتصام وأن تخرج من جاء اسمها، وسيعمل على الإفراج عن الباقي، لكن هذه الرسالة لم تلقِ آذانًا صاغية. فقط طالبنا بعدم استعمال القوة لإخراج المتضامنات.

في اليوم العشرين تحدث مدير السجن مع الممثلة، وأبدى موافقته على طلباتنا، ونحن بدورنا اتخذنا قرار إنهاء الاعتصام، فتحت الأبواب والأصوات تغني: "منتصب القامة أمشي، مرفوع الهامة أمشي".

عدنا إلى غرفنا نحمل حبًا كبيرًا لبعضنا البعض، ونحمل امتنانًا لأخوات سطرن صفحة ذهبية من صفحات العز والفخار لم يسطر مثلها قبلًا ولا بعدًا.

جاء موعد الزيارة والإدارة لديها أمل في أن يضغط الأهل على بناتهن، لم يكن الأهل أقل عزًا وعطاءً، بل شدوا على أيدينا وقووا من عزمنا.

هذا الصمود حيَّر الكثير ممن يدرسون الحالة الفلسطينية وممن يدرسون الدوافع الإنسانية، فجاء الكثير منهم ليدرس الحالة داخل الأسر.

عدنا لتنظيم برامج ثقافية جماعية بعيدًا عن الفئوية، أصبح للحرية طعم آخر استمر ذلك حتى عام 1997م حيث تناقلت الأنباء إمكانية الإفراج القريب عن جميع الأسيرات ودون استثناء، وفي 12/02/1997م فتحت الأبواب؛ لتهيئة أنفسنا للإفراج، هذه أول مرة تفتح فيها جميع أبواب الغرف. أرادت الأسيرات الانتقام من الأبواب المغلقة، أصبحن يتنقلن من غرفة إلى غرفة، ومن سرير إلى سرير كخلية نحل.

الساعة السابعة مساء بدأت السجانات مع ضابط الأمن والاستخبارات يأخذن كل أسيرتين مع بعض، يكبلون أيديهن يوقعن الورقة المعهودة ثم يعتلين الحافلة، لم يبقَ سوى أسيرتين كانتا قد أسرتا بعد قرار الإفراج وهن ماجدة أبو عياش وعلا الزعاقيق.

نمتحن مرة أخرى في صبرنا وصمودنا هل ندعهن خلفنا؟ قالوا أن هناك محكمة أقيمت ضدهن، وخلال ساعتين يصدر الحكم، قلنا لننتظر معهن، نزلنا جميعنا من الحافلة، عدنا للقسم الظالم أهله، عند الساعة الحادية عشر صدر الحكم وأُفرج عنهن بعد أن سجلنا هدفًا آخر في اللحظة الصفر.

وصلنا رام الله عند الفجر حيث تعالت الزغاريد وكانت الفرحة فرحتين فرحة الانتصار وفرحة الإفراج، تلاشت الأصوات التي كانت تسفه صمودنا وتعالت أصوات العزة والافتخار.

"جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي "شمس نيوز".