بسم الله الرحمن الرحيم (والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما) صدق الله العظيم
الجزء الثاني، استكمالاً لما مضى فإن لغة الأرقام المهولة والصادمة هي التي تتحدث عن نفسها هنا،حيث يوجد ما يقارب من 100 مليون مواطن عربي تحت مستوى خط الفقر غير من هم فوق الخط، وما يزيد عن 30 مليون أسرة عربية تسكن العشوائيات، فضلاً عن عشرات الملايين من المشردين والمهجرين والنازحين في البلدان العربية، فيما تُنفَق المليارات على الاحتفالات بالانتصارات الوهمية والمهرجانات الخطابية وبازارات الدعايات الانتخابية التي يستعرض فيها المرشحين أمجادهم التاريخية وبطولاتهم العظيمة بنتائج للخلف در لواقع حال الأمة المرير علاوة على النفقات العربية الضخمة حبر على ورق، والتي ليس لها أي وجود في واقع حياة الناس المعيشية، من خلال الفساد المالي والإداري المستشري في المنظومة العربية، والإتقان المتمرس في نهب وسرقة المال العام، وإهدار المقدرات والثروات بلا حسيب ولا رقيب!!
ومن جانب آخر نجد الطامة الكبرى إذا تعرفنا على إجمالي إنفاق المرأة العربية الحديثة والمعاصرة على مستحضرات التجميل والعطور التي تتجاوز 25 مليار دولار سنوياً، كما يُنفق على هوس عمليات التجميل الفاشلة والقاتلة أحيانا ضعف هذا الرقم، فبينما يقدر استهلاك مستحضرات التجميل والعطور في العالم أجمع بـ 255 مليار دولار، بينما نصف سكان الكرة الأرضية يعانون من الفقر بجميع أشكاله.
ومما ذكره آخر تقرير صادر عن منظمة الصحة العالمية أن العالم ينفق على التبغ والتدخين وحدهما وبدون جمارك وضرائب ومن غير أنواع المخدرات والمسكرات الأخرى ما يقارب تريليون دولار ونيف سنوياً، يهدر ويحرق في الهواء؛ أي ما يعادل بناء 1000 ناطحة سحاب عملاقة سنوياً، أو 250 مدينة جديدة، كالعاصمة الإدارية الجديدة بمصر، والأدهى والأمرّ من ذلك أن أكثر من 7 مليون إنسان في العالم يموتون بسبب التدخين سنوياً بنسبة تتفوق على الأمراض الأخرى بما فيها فايروس كورونا.
وللعلم فإن الضفة الغربية وقطاع غزة لهما مساهمة ونصيب كبيران أيضاً، حيث تنفقان على التدخين والتبغ فقط 438 مليون دولار سنوياً، ويساوي 50 ألف دولار في الساعة، أي بما يعادل ثمن برج مكون من 24 شقة يومياً، و8640 شقة سنوياً تحتضن نفس الرقم من الأسر المشردة والمعذبة والفقيرة بأطفالها؛ والتي تعيش بلا مأوى تلتحف السماء وتفترش الأرض تحت دلف الشتاء وحر الصيف، علاوة على الإهدار والإنفاق على الصراعات والحروب الطاحنة بين الإخوة والأشقاء في الدين والعقيدة، وتكاليفها الاقتصادية والبشرية الضخمة والباهظة التي تقدر بتريليونات الدولارات على الهدم والتشريد والقتل والخراب، وتحتاج لمثلهن في إعادة الإعمار لتلك الدول، والتي لا زالت رحاها مستعرة ولم تنتهِ بعد، بلا منتصر ولا منهزم، جهاد في غير محله وجهاد مع غير عدو، للأسف الشديد!!
أليس في الأمة رجل رشيد يوقف هذا النزف والهدر الكارثي؟! أم لا زلنا ننتظر أوامر السيد الأميركي والغربي الذي أشعلها بعود الثقاب أن يطفئها ؟!
أرأيتم كيف يَظلم الإنسان نفسه ومجتمعه والناس أجمعين؟!
وصدق الله العظيم القائل: "وما ظلمناهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون"،
وقوله تعالى: "وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلاَّ وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ"، وقوله تعالى: "وما ربك بظلامٍ للعبيد".
أرأيتم كيف يصبح الإسراف والبذخ سواء في الحلال أو الحرام؟!، وهو أشنع مظهر من مظاهر الإفساد في الأرض التي تؤدي إلى اختلال المعايير والموازين، وتعود بالضرر على الإنسان المسرف، وعلى مَن حوله، وعلى مجتمعه في دنياه وآخرته، لقوله تعالى على لسان قوم موسى لقارون: "ولا تبغِ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين"، ويختتم بقوله تعالى بعدما خُسف به وبداره الأرض " تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً والعاقبة للمتقين ".
نعم، لقد حذر النبي - صلى الله عليه وسلم - من الإسراف والتبذير ، حيث كان هديه في تعليم وتوجيه أمته نحو فقه التدبير قائلاً: " كُلْ ما شئت، والْبس ما شئت، ما أَخْطَأَتْكَ اثنتان: سَرفٌ ومَخيلةٌ.
وقوله: "كلوا واشربوا والبسوا وتصدَّقوا، من غير مخيلة ولا سرف؛ فإن الله جل وعلا يحب أن يرى نعمته على عبده".
ولكن لا بد من الضوابط، وهو ألا يكون ثمة خُيلاء ولا سرف، وذلك أن الله جل وعلا يحب أن يرى على عبده أثر النعمة؛ ولذا لَمَّا رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم رجلًا وعليه أثر التقشف الذي أزرى به في لباسه ومظهره، فهو لا يعتني بنظافة، ولا بملبس، وهذا خلاف ما أمرت به الشريعة؛ فلا يصح أن يكون الإنسان مسبباً لمن حوله الانزعاج بسبب ما يكون عليه من قلة النظافة وإهمال العناية بهندامه.
ثم تأملوا قوله - صلى الله عليه وآله وسلم- : "تصدَّقوا من غير مخيلة ولا سرف"،
لأن من الناس من يجعل بعض أبواب البر مجالًا للخيلاء والسرف أي للكبرياء والفخر فهذا منهي عنه، حتى ولو كان من باب الصدقات، فينبغي أن يكون الإنسان في أعماله مريداً وجه الله جل وعلا، وليس فخراً ولا رياءً، ولا سُمعة، حتى في الأعمال الصالحة؛ بل هو متعين فيها على وجه الأولوية، وهكذا لو أراد أن يكرم ضيفًا أو يحسن إلى جار، فلا يكون ذلك فيه الخيلاء ولا السرف، فهو ممقوت حينئذٍ ، وعليه أن ينضبط بالضوابط النبوية السابقة .
؛ يقول عبد اللطيف البغدادي رحمه الله: "هذا الحديث جامع لفضائل تدبير الإنسان وفيه تدبير مصالح النفس والجسد في الدنيا والآخرة، فإن السرف في كل شيء يضر بالجسد، ويضر بالمعيشة، فيؤدي إلى الإتلاف، ويضر بالنفس؛ إذ هي تابعة للجسد في أكثر الأحوال، والمخيلة أي الخيلاء والتكبر تضر بالنفس؛ لأنها تكسبها العجب، وتضر بالآخرة؛ لأنها تسبب الإثم، وما أجمل ماقاله نبينا صلى الله عليه وآله وسلم واتخذه الحكماء والأطباء شعاراً لهم: "ما ملأ آدمي وعاءً شرًّا من بطن، بحسب ابن آدم لُقيمات يقمن صُلبه، فإن كان لا محالة فاعلًا، فثُلث لطعامه، وثلث لشرابه، وثلث لنفَسِه"،
و ليس لابن آدم سوى بيت يسكنه ، وثوب يواري عورته، وجلف الخبز يأكله.
ونحن مقبلون بإذن الله تعالى على شهر الطاعات والاجتهاد بالعبادات والقربات، فالحذر الحذر من تحويله لشهر طعام وشراب، واحذروا من تحويل ليالي الاعتكاف إلى ليالي اعتلاف وإفراغه من روحه الإيمانية التعبدية بالإسراف والمبالغة، ونحن نعيش ظروفا غايةً في الصعوبة ، فلا بد من التخلق بأخلاقه صلى الله عليه وسلم القائل: "من كان معه فضل ظهرٍ فليعد به على من لا ظهر له، ومن كان له فضل زادٍ فليعد به على من لا زاد له"،
والقائل أيضاً: "مَا آمَنَ بِي مَنْ بَاتَ شَبْعَان وَجَارُهُ جَائِعٌ إِلَى جَنْبِهِ وَهُوَ يَعْلَمُ بِهِ" وهذا الحكم ينسحب على الدول والمدن والقرى التى تبيت منهكة من شدة الشبع والتخمة، وبجوارها من يتضور جوعاً وقهراً وحصاراً، أيكون هذا مؤمن بما نزل على محمد صلى الله عليه وسلم ؟!
لأن العبرة دائماً بعموم اللفظ لا بخصوص السبب..
يروى أن الخليفة الرشيد كان له طبيب نصراني، وكان حاذقًا في الطب، فجادل يومًا عليا بن الحسين رضي الله عنه ، وقال له: ليس في كتابكم من عِلمِ الطب شيء؟ لأن العلم علمان: علم الأديان، وعلم الأبدان.
فقال له علي: إن الله جمع الطب كله في نصف آية من كتابنا، وهي قول الله جل وعلا : "وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا"، فقال النصراني: "ولا يؤثر عن رسولكم شيء من الطب؟ فأجابه عليّ قائلاً: لقد جمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الطب في ألفاظ يسيرة، قال: ما هي؟ قال له: المعدة بيت الأدواء، والحِمية رأس كل دواء، وأعط كل جسد ما عوَّدته"، فقال النصراني: ما ترك كتابكم ولا نبيُّكم لجالينوس شيئاً، وهو أبو الطب في العصور القديمة.
إن من جملة الآيات الكريمة والنصوص الشريفة في ضبط الإنفاق والاتزان فيه، ما دل عليه قول الله جل وعلا في وصف عباده المؤمنين الأخيار: "وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا" ، هكذا ينبغي أن يكون المؤمن مُتزنًا ليس عنده إفراط ولا تفريط، فلا يصح من الإنسان أن يكون مُمسكًا عن الإنفاق، فليس ثمة شيء أشنع من البخل، فهو من الأدواء الأخلاقية التي إذا اتَّصف بها الإنسان كان ممن يُنفر منه؛ فالبخل والتقتير والإمساك خلق ذميم، والمتعين على المؤمن أن يكون جوَادًا كريمًا منفقاً، وخاصة على مَن كان يجب عليه أن ينفق عليهم من والِدَين وأهل وولد، ومن قرابة وأرحام؛ فإن هذا خلق كريم حثَّ عليه الشرع المطهر، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: "ما من يوم إلا وينزل ملكان يقولان: اللهم أعطِ منفقًا خلفًا، واعطِ ممسكًا تلفًا"، لكن هذه النفقة ينبغي أن تكون أيضًا على الوجه المعروف الذي يُقره الشرع ويُتابعه العقل؛ وذلك بأن لا يزيد إلى حد الإسراف أو حد التبذير، فالإسراف ما زاد الإنفاق في مجاله ولو كان حلالًا، إذا تعدى العرف الشرعي والعرف الإجتماعي، وأما التبذير فهو رتبة أشد وأكثر تنفيراً، وهي أن ينفق الإنسان ماله في حرام ولو كان قليلاً؛ ولذا قال الله جل وعلا كما في سورة الإسراء: "وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا"، وهذا يشمل جميع أنواع الإسراف والتبذير والإهدار من مأكل ومشرب وملبس ومسكن ومياه وكهرباء وأفراح وأتراح وأوقات وكماليات الحياة المختلفة...إلخ.