تهدف سياسة "إسرائيل" تجاه مدينة القدس إلى إحداث عملية إبادة حضارية ممنهجة لكلّ ما هو فلسطيني عربي داخل المدينة المقدسة، معتمدة على استراتيجية الإسراع في وتيرة التهويد الإسرائيلية داخل المدينة المقدسة، كما يحدث الآن في حي الشيخ جراح وغيره من الأحياء العربية داخل القدس.
بات من المؤكّد في ضوء السّياسة الإسرائيليّة في مدينة القدس أن قطار الانتخابات الفلسطينية المزمع إجراؤها في 22 أيار/مايو 2021 سيصطدم بموقف إسرائيلي رافض لإجراء تلك الانتخابات فيها، وأن ما قبلت به "إسرائيل" من ممارسة فلسطينيي مدينة القدس حقهم الانتخابي في الانتخابات الفلسطينية في العامين 1996 و2006 لم يعد مطروح إسرائيلياً، وخصوصاً بعد الاعتراف الأميركي بأن القدس عاصمة "إسرائيل"، ونقل السفارة الأميركية إليها، وبالتالي ستعتبر "دولة" الاحتلال أنَّ موافقتها على إجراء أي انتخابات فلسطينية في القدس هي شكل من أشكال الاعتراف الإسرائيلي الضمني بالحق الفلسطيني في المدينة المقدسة، الأمر الذي يعتبر تخلّياً إسرائيلياً عن "صفقة القرن"، التي ترى "إسرائيل" أنها حسمت هُوية المدينة المقدسة لمصلحة الرواية التلموديّة الصهيونيّة، ومنحت اليهود صكّ ملكية لهم فيها.
وضع الموقف الإسرائيلي الرافض لإجراء الانتخابات في مدينة القدس القوى الفلسطينية المشاركة في الانتخابات أمام لحظة الحقيقة الفلسطينية؛ تلك القوى التي اعتبرت أنّ المقاربة الممكنة لحلّ أزمة الانقسام الفلسطيني باتت أمام عدة خيارات، أهمها:
أولاً، قبول القوى السياسية والفصائل الفلسطينية بإجراء الانتخابات الفلسطينية من دون القدس، وخصوصاً أن هناك اقتراحات دولية لإيجاد حلول لتمكين أهالي المدينة من الانتخاب بطريقة تلتفّ على الرفض الإسرائيلي، مثل التصويت الإلكتروني أو وضع صناديق اقتراع خارجها، لكنَّ معضلة هذه الاقتراحات أنها تقف عند حدود توفير حلول للآليات الانتخابية لأهاليها، بعيداً كلّ البعد من دلالات البعد السياسي والوطني لممارستهم العملية الانتخابية داخلها، الأمر الذي يعتبر موافقة فلسطينية ضمنية على "صفقة القرن" وما تم فرضه من وقائع تهويدية في القدس.
ثانياً، تأجيل الانتخابات الفلسطينيّة برمّتها ما لم يتم إجراؤها في مدينة القدس إذ يعتبر ذلك موقفاً وطنياً، ولكن ربط ممارسة الفلسطيني حقّه في الانتخابات بالموافقة الإسرائيلية يمنح "دولة" الاحتلال حقّ الفيتو على إعادة ترتيب البيت الفلسطيني الداخلي، وخصوصاً أنّ الانتخابات الفلسطينية تمثل المقاربة التي تم التوافق عليها فلسطينياً لإنهاء حالة الانقسام التي تتسيّد الحالة الفلسطينية منذ 14 عاماً، والتي تعتبر بالتأكيد مصلحة إسرائيلية عليا.
ثالثاً، الاستمرار في العملية الانتخابيّة مع فتح ساحة اشتباك مع الاحتلال حول قضية الانتخابات في القدس، لكن هذا الخيار يبقى شعاراتياً ما لم يحدد الطريقة والآلية والكيفية التي سيخوض بها الفلسطينيون تلك المواجهة من جهة، مع الأخذ بالاعتبار عدم وجود برنامج وطني متفق عليه فلسطينياً يحدّد مسارات المواجهة مع الاحتلال. من جهة أخرى، يجب أن يقدّم حلاً سياسياً فلسطينياً داخلياً لأزمة الانقسام وإعادة ترتيب البيت الفلسطيني من جديد في ظلّ مواجهة واشتباكات مع الاحتلال.
تفرض تعقيدات الخيارات المطروحة التفكير من جديد في صواب مقاربةٍ مفادها أنَّ إجراء انتخابات مجلس تشريعي لسلطة فلسطينية تحت سيادة حراب الاحتلال هو الحل الأمثل لإنهاء الانقسام الفلسطيني، لنتساءل جميعاً: ما الهدف من ترتيب البيت الفلسطيني؟
هل ترتيب البيت الفلسطيني مرتبط بإعادة الشرعية للسلطة الفلسطينية التي أسسها اتفاق "أوسلو"، والسعي لمزيد من إهدار الوقت والإمكانيات الفلسطينية في البحث عن السّلام الموهوم مع "إسرائيل" التي تسرّع عمليات الاستيطان والتهويد للقدس ولكامل أراضي الضفة الغربية؟! بالتأكيد لا.
هل ترتيب البيت الفلسطيني مرتبط بإعادة الاعتبار إلى النّظام السياسيّ الفلسطينيّ، بعيداً من آفة الانقسامات، وبالتالي إيجاد قيادة فلسطينية موحّدة قادرة على خوض معركة التّحرير ضدّ الاحتلال، في ظلّ التحديات والمخاطر المحيطة بالقضيّة الفلسطينيّة؟
إذا كان الأمر كذلك، فمن الأَولى إعادة بناء منظَّمة التحرير الفلسطينية على أساس تحرّري لا يعترف بشرعية "إسرائيل" على الأرض الفلسطينيّة، بدلاً من إجراء انتخابات لسلطة فلسطينية تحت سطوة الاحتلال، الأمر الذي ينتج منه وجود قيادة تعبر عن الكلّ الفلسطيني في الداخل والشتات، قادرة على تجنيده في إطار عملية نضالية فلسطينية ضد الاحتلال في شتى الوسائل، وعلى كل المستويات، وفي كل ساحات المواجهة، وفي مقدمتها مدينة القدس.