يبدو أن تراكمية الأحداث العدوانية والإجرامية التي كانت تشهدها مختلف أرجاء الضفة الغربية والقدس المحتلتين في الأشهر والأسابيع الأخيرة على يد قوات الاحتلال الصهيوني، وعصابات المستوطنين المتطرفين، قتلاً، واعتقالاً، وتنكيلاً بالمواطنين الفلسطينيين، وهدماً لمنازلهم ومنشآتهم، ومصادرةً لأراضيهم، وانتهاكاً لكرامتهم، وتدنيساً واستباحةً لمقدساتهم، قد كشفت حمم النار المستعرة تحت الرماد، وهو ما بدأ يتبدّى في هذه الأيام على شكل إرهاصات للانفجار المرتقب في وجه الاحتلال، الذي ظنّ واهماً أنه استطاع تشتيت اتجاه البوصلة، وإخماد لهيب الثورة في نفوس شبان القدس والضفة وحرائرهما!.
فما أن حل شهر رمضان المبارك، هذا الشهر الذي يُعتبر في أدبيات المسلمين وعقيدتهم، شهراً للثورة والتغيير على كل الصعد والمستويات، السلوكية منها والتعبديّة، عوضاً عن تدشين مرحلة جديدة من مراحل الثورة في وجه الباطل والطاغوت، حتى اتخذ شبان القدس، (رجال المرحلة وعنوانها الأبرز) قراراً بالتطبيق العملي للمفاهيم التي جاء بها "رمضان الثورة"، في تفاعل حيوي مع آيات الإسراء.. "ليتبروا ما علو تتبيرا"!.
قرار المقدسيين وهم يرسمون بقبضاتهم وصرخاتهم مشاهد عزٍّ وفخار؛ لتشرق في عتمة الليل وأوقات السحر، من بين شوارع وأزقة وحواري مدينة القدس، وباحات الأقصى المبارك، لتمسح عن الأمة غبار المذلة والدنيّة، وتُلبسها ثوب الكرامة والسؤدد، يؤكد من جديد أن كل محاولات التدجين والتشويه التي مورست بحقهم وبحق شعبنا عامة، طيلة سنوات التيه السياسي العبثي التي حاولت تشكيل جيل جديد يقبل الذلة والمهانة، ويرضى باقتسام حقّه مع جلاده وسارق أرضه، قد باءت بالفشل، وأن القدس ستظل صاعق التفجير المتأهب، وخزّان الثورة الذي لا ينضب.
إذن، ليس غريباً أن تأتي هذه الهبة الجماهيرية المقدسية المباركة، ومن خلفها الجماهير التي انتفضت بشكل عفوي في مناطق عدة من الضفة المحتلة، وغزة المحاصرة؛ لتصحح المسار؛ ولتعيد الصراع إلى سيرته الأولى، في الوقت الذي ينشغل فيه الكثيرون على الساحة الفلسطينية بألهية لم يسبقنا إليها أحد من العالمين، ألا وهي "ألهية الانتخابات" تحت حراب الاحتلال، التي يُراد منها تجديد شرعيات موهومة سقفها الاحتلال، فيما بقايا الأرض من مخلفات "أوسلو" تُنتقص من أطرافها، استيطاناً وتهويداً..!
لقد استعاد المقدسيون في هذه المرحلة الحساسة من عمر القضية الفلسطينية، في ظل ما تتعرض له القدس من تهويد، والأقصى من تدنيس وتقسيم، دورهم المنوط بهم، مقدّمين الواجب رغم قلة الإمكان، وأشعلوا بدمائهم سراج الثورة الذي حاول البعض إطفاءه؛ ليثبتوا من جديد أن الكفّ قادرٌ على مواجهة المخرز، وأن الدم سيهزم حتماً حدّ السيف، وأن ميلاد الفجر، سيُبدد سواد المرحلة!.
ففي الوقت الذي تتصارع فيه (36) قائمة انتخابية، للظفر بأصوات الناخبين، وإثبات "سيادة موهومة" على مدينة القدس، عبر "ألهية الانتخابات"، لتشكيل "دُمية" بيد الاحتلال تضمن إطالة عمره على هذه الأرض، وتمدده في عواصم المنطقة عبر مشاريع التطبيع والتطويع، التي يمارسها الكيان بدعم من الولايات المتحدة الأمريكية، والقوى الاستعمارية في العالم، إلى جانب أنظمة التطبيع، اختار المقدسيون التصويت إلى قائمة "الثورة" التي تعيد البوصلة إلى اتجاهها الصحيح، ولسان حالهم يردد قوله تعالى: "وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرّق بكم عن سبيله"، متلمّسين الهداية الحقّة باتباع خط الجهاد والمقاومة "والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين".
نعم، لقد أدرك المقدسيون والمنحازون إلى خيار المقاومة مبكراً، أن السبيل إلى القدس لا يمر إلا من خلال بوابات الثورة، ومحاريب المقاومين، وأن بوابات "الأقصى" لا تقبل إلا مفاتيح الثائرين الذين أرخصوا دماءهم في سبيل فلسطين التي عمّدها الشهداء بدمائهم وزرعوا عظامهم سياجاً لها.
وأمام جلاء موقف أهلنا في القدس وانحيازهم لخيار الثورة، بات لزاماً على كل مكونات العمل الوطني والنضالي الفلسطيني الارتفاع إلى مستوى المرحلة، والبدء بشكل جاد في خطوات عملية لترتيب البيت الفلسطيني؛ ليكون على قدر التحدي والمسؤولية الوطنية والتاريخية والنضالية، وإعادة الاعتبار إلى المقاومة لتأخذ دورها في رد العدوان، وتحشيد جماهير شعبنا وأمتنا وأحرار العالم خلف عنوان المرحلة العريض الذي تجسده القدس بما تمثله من هوية شعب، وتاريخ أمة، وعنوان رسالة، وقبلة للأحرار والمجاهدين.