يُسابق الصغيران صهيب ويحيى الزمن؛ لصناعة زينة رمضان من فوانيس ورقية، وأهلة، ومثلثات، ويرسمان الضحكات والأفراح بين إخوتهما وأبويهما، مهارات الصغيرين الجميلين في صناعة الزينة لم ترق لطائرات الاحتلال الإسرائيلي التي خطفت أرواحهما، وفشلت في إسكات صراخ الطفل الرضيع عمر البالغ من العمر (5 أشهر فقط)؛ ليكون شاهدًا على مجزرة الفجر.
يطوي الصغيران "صهيب ويحيى" الحديدي، أوراق الكتب والكراسات بطريقة مبهرة وملفتة للانتباه؛ ليصنعا أجمل زينة لشهر رمضان المبارك من فوانيس وأهلة، هذه الأمور البسيطة أدخلت الفرحة على قلب والدهما محمد، الذي انتفض ليساعدهم في تعليق الزينة، وسط فرحة عارمة، صورة الفوانيس والزينة التي تتدلى عن الحبال المعلقة بين الجدران كألوان الطيف لن ينساها محمد مطلقًا.
ينظر محمد وأطفاله إلى الزينة الجميلة، ينتظرون مدفع إفطار رمضان في اليوم الثامن والعشرين من الشهر الفضيل، صوت عقارب الساعة كان يدق عند السادسة مساءً، "صوت انفجار هنا، وآخر هناك، صاروخ يقهقه، وطائرة تقصف، وصرخات أطفال محمد كغيرهم تصدح في المكان، وألوان وجههم خطفتها أصوات القنابل الإسرائيلية.
أسرع محمد صوب أطفاله: صهيب، ويحيى، وعبد الرحمن، وأسامة، وعمر؛ ليحتضنهم، ويخفف من هول المشهد الصعب الذي استمر أيامًا عدة؛ ولم يكن أمامه سوى أن يرسلهم مع زوجته مها، إلى بيت شقيقها من عائلة أبو حطب؛ ليلعبوا مع أبناء خالهم، ويحتفلوا بعيد الفطر السعيد؛ لعل ذلك يُنسيهم لحظات الخوف والرعب التي تحدثها آلة القتل الإسرائيلي.
في صباح يوم الجمعة 14-5-2021، استيقظ "محمد الحديدي" على مشهد زوجته مها، وهي تُلبس الأطفال ملابس العيد في أجواء متناقضة من فرح، وسرور، وسعادة؛ للخروج من المنزل، ممزوجة برائحة البارود، وأزيز الطائرات، وأصوات المدافع التي تحيط في كل مكان.
لم يدرك "محمد" أن مشهد مها وأطفاله وهم يرتدون ملابس العيد، ويحملون الألعاب، ويودعونه على باب المنزل، لن تتكرر مرة أخرى؛ لتبقى هذه الصورة ذكرى مؤلمة لروحه يرويها صباح مساء لأصدقائه.
وقضى الأطفال يومهم بفرح وسرور في بيت خالهم؛ لكن لم تتمكن مها وأطفالها من العودة إلى منزلها؛ في ظل كثافة الحمم الصاروخية التي تطلقها طائرات الاحتلال الإسرائيلي على المدنيين في قطاع غزة.
باتت "مها" تلك الليلة في منزل شقيقها تحتضن أطفالها، وتخفف من هول الرعب الذي أصابهم بفعل قوة الصواريخ الإسرائيلية التي تتساقط فوق رؤوس المدنيين في غزة؛ لكن صوتها، وزوجة شقيقها "ياسمين" وأطفالهم، ومشاهد الفرح والسرور، اختفت تمامًا.
عقارب الساعة كانت تتجه إلى الثانية فجرًا من يوم السبت 15-5-2021، انفجار ضخم غرب مدينة غزة، في تلك اللحظة السوداوية أصيب جسد محمد بقشعريرة وارتباك شديد، وسقط عن الفراش من شدة الانفجار، يهرول من غرفة إلى أخرى مذعورًا خائفًا، يبحث عن أبنائه، ويكاد لسانه ينطق "أين أطفالي؟ أين زوجتي؟" قبل أن يستعيد توازنه؛ ليتذكر أنه سمح لهم بالمبيت في منزل خالهم.
خطف محمد الهاتف مذعورًا محاولًا الاتصال بزوجته دون فائدة، في تلك اللحظة الصعبة تداولت وسائل الاعلام خبرًا عن قصف منزل لعائلة أبو حطب في مخيم الشاطئ غرب مدينة غزة، هنا توقف الزمن، وأصيب محمد بالصدمة، وزادت نبضات قلبه خفقًا شديدًا، وارتفعت حدة التوتر، وعيناه تلونتا باللون الأحمر، قبل أن يهرع مسرعًا لمستشفى الشفاء.
رائحة البارود تفوح في المكان، ودخان أبيض يتصاعد إلى عنان السماء، المنزل المكون من 4 طبقات تحول لركام، ومن فيه أصبحوا في عداد الشهداء، ورجال دفاع مدني ينقبون، أحدهم يصرخ "إنه على قيد الحياة" ويتساءل من حوله: "من؟" ليجيب بسرعة كأنها معجزة إلهية "طفل رضيع بين أحضان والدته، وتمسك به بشدة وتخشى عليه من الهوا الطاير"، لتصدح صيحات التكبير والتهليل... مشهد مؤلم لعملية الإنقاذ رواه أحد المسعفين.
أما في مستشفى الشفاء بغزة، فالمشهد أكثر ألمًا وحزنًا، صراخ، وبكاء، وأصوات إسعاف تصدر في المكان، رجال شرطة، ودفاع مدني، وأطباء، وإعلاميون، يتجمعون داخل أروقة المستشفى، أحدهم قادمٌ من بعيد يصرخ، ويضرب على الحائط بقوة، أمسكه الرجال مؤازرين، متسائلًا بصوت فاقد لقوته.. متقطع من شدة الصدمة: "أين عمر؟" أشار أحدهم إلى السرير، فهرع مسرعًا مخترقا جموع الناس في لحظات.
قلبه ينبض بقوة، ودموعه تجري كالسيل الجارف على وجنتيه، ويداه المرتجفتان تحتضنان طفله الرضيع عمر الناجي الوحيد من القصف الإسرائيلي، الذي خطف عشرة أرواح بينهم ثمانية أطفال "من عائلتي الحديدي وأبو حطب".
يقول محمد الحديدي "لم يبق لي إلا عُمَر فلذة كبدي، وزينة رمضان من رائحة الحبايب"، قالها وفي قلبه ألم شديد، وعيناه تحبسان سيلاً من الدموع، ويداه ترتجفان؛ بعد مشاهد أليمة وقاسية لا تتحملها الجبال، يُمسك زجاجة الماء التي كادت أن تسقط أرضًا من هول الصدمة التي سببتها قوات الاحتلال الإسرائيلي التي خطفت أرواح زوجته وأبنائه الأربعة بغمضة عين!
محمد الحديدي ترك تساؤلات عدة للاحتلال الإسرائيلي، والمجتمع الدولي قائلًا: "ما ذنب أطفالي الصغار، وزوجتي، وأطفال أبو حطب؛ ليتم قصفهم بهذه الوحشية والإرهاب والإجرام؟، ما ذنب هذا الرضيع (5 أشهر) ليحرم من أمه؟، هل كان أطفالي يطلقون الصواريخ؟ هل شكل أطفالي خطرًا على جيش "إسرائيل"؟"
كثير من الناس المتواجدين في المستشفى أكدوا أن طائرات الاحتلال الإسرائيلي قصفت منزل أبو حطب دون سابق إنذار، ودون مراعاة لحقوق الانسان والمعاهدات الدولية التي تُحرم قصف البيوت فوق رؤوس ساكنيها.
مجزرة عائلة أبو حطب والحديدي تضاف إلى سلسلة من المجازر الإسرائيلية التي ارتكبت خلال العدوان الإسرائيلي على أبناء شعبنا في قطاع غزة، والذي استمر 11 يومًا، استشهد خلاله 248 مواطنًا، بينهم 66 طفلًا، و39 سيدة، و17 مسنًا إضافة إلى إصابة 1948 مواطنًا.