تسقط المؤسسات من الداخل كما الامبراطوريات كما القلاع، جميعها تسقط من الداخل، فكيف يكون السقوط من الداخل؟
كلنا سمع بالقصة الشهيرة التي حدثت بعد نهاية الحرب الباردة، قصة الجاسوس الروسي المملوك للأمريكان الذي كان يعمل مستشارا للرئيس الروسي آنذاك، والذي لم يقتل روسيا واحدا بل كان متفانيا في عمله، ومهمته الوحيدة لاسقاط الامبراطورية من الداخل كانت هي "وضع الشخص غير المناسب في المكان المناسب"، فهذا الجاسوس كان يأتي بالمهندس الزراعي ويضعه في وزارة المالية وكان يأتي بالطبيب ويضعه في وزارة الصناعة!!! وهذا الشيء ساعد كثيرا في تفتت وإضعاف الاتحاد السوفياتي، وهذا الفعل أدى إلى القضاء على أي بادرة للبناء أو التقدم.
الفساد في المؤسسات ليس فقط سرقة أموالها أو فساد في تعيين أقارب أو اشخاص بالواسطة، وإنما الفساد أيضا في تعيين أشخاص غير مناسبين لأماكن مناسبة، الفساد يكون عندما يتم حماية الفاسدين في المؤسسة بالترويج وَكَيْل المديح لهم، مثلاً هناك امبراطوريات إعلامية يقدِّمون فيها جواسيس يتحدثون في الإعلام على اعتبار أنهم مفكرين، ويحدث تلميع لهم على أنهم أساسٌ للفكر، ويتم منحهم جوائز وألقاب ويتم تقديمهم في المؤتمرات على أساس أنهم جهابذة عصرهم، هنا يصبح الفساد ينخر في الداخل، وبهذه الطريقة يكون الفساد في المؤسسات من الداخل بوضع أشخاص غير كفؤة في أماكن كفؤة، هنا يأتي الشيطان يعظ، بمعنى أنه يتحول هذا الشيطان إلى واعظ، فهو يصبح يسوِّق وينصح ويروج للفاسدين ويهاجهم المحترمين في المؤسسة.
في قصة مخابراتية أخرى، عندما أراد رجل المخابرات إختيار جاسوس من مؤسسة ما، وكان في تلك المؤسسة موظفين معارضين للإدارة وآخرين مؤيدون بشدة، فاعتقد مَن حوله للوهلة الأولى أن رجل المخابرات سيختار جاسوسه من المعارضين الذين ينتقدون إدارة المؤسسة بشدة، لكنه لم يختار احدا من المعارضين لأنه يدرك أنهم أحرص الناس على المؤسسة، واختار جاسوسه من المطبطبين والمنافقين والمسحجين للإدارة، فهؤلاء المطبطبون هم كانوا الفئة المرشحة لرجل المخابرات وليس المعارضون.
الشيطان يعظ عندما يحارب الأقلام الحرة، الشيطان يعظ عندما يصفق لتقدُّم الرويبضة في الصفوف الأولى، والشيطان يعظ ويُظهر نفسه الأكثر حرصا على المؤسسة وهو في الحقيقة عدو لها، الشيطان يعظ فيرفع السفيه والمنافق ويُشن هجوم على المحترم.
الشيطان يعظ ويزين لأتباعه بأن الأمور بخير ويحرق لهم عيدان البخور ليشعرهم وكأنهم في جنة الخلد، وهم ليسوا كذلك، يقول الله تعالى: "وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ"
الشيطان يعظ بصناعة شخصيات ويرشحها للقيادة وهي أبعد ما تكون عن القيادة، وأبعد ما تكون عن الإخلاص، وأبعد ما تكون عن القيم والمبادئ والأخوة.
و إن فرملة الفساد تتطلب محاسبة الفاسدين بشكل صارم و منعهم من إستغلال سلطاتهم، حيث إن الإرادة لبناء مؤسسات قوية وشفافة هو السبيل الوحيد لمحاربه الفساد والمفسدبن.
وفي النهاية الله تعالى يقول: "إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا"، وإن شمس الحقيقة ستحرق شيطانهم قبل أن يُسقطوا القلعة من داخلها.