بقلم/ أ. محمد حميد "أبوالحسن"
لطالما اعتُبِر نموذج ثلاثة مؤتةٍ زيدٍ وجعفرٍ وعبد الله نموذجاً ريادياً في التاريخ الإسلامي، فقد قدم فيه ثلاثةٌ متعاقبون من قادة الجيش الإسلامي نماذج فريدةٍ في تقدم الصفوف وحمل اللواء ومجابهة الأعداء ونيل الشهادة مقبلين غير مدبرين، فنالوا بذلك شرف الدنيا المتعاقب، والأجر العظيم للشهداء، وهي نماذج تلقتها الأمة بالقبول والاقتداء، وتلقى أحد أبنائها الشهيد القائد/ دنيان منصور "أبو عبد الله" هذه النماذج قبولاً واقتداءً وتجسيداً، فمضى شهيداً بعد أن حمل لواء ثغرٍ من ثغور غزة قدم فيه كل ما يملك في حربٍ طويلةٍ كتب الله فيها الصمود لشعبنا ومقاومتنا، وتتجدد ذكرى شهادته لتذكرنا بمآثرَ خُطّت بقبس الجيل الفريد.
فقد نشأ الشهيد القائد/ دنيان منصور في أزقة مخيم الشابورة برفح، أحد المخيمات الفلسطينية الشاهدة على معاناة الفلسطينيين من التهجير من أرضهم وديارهم في فلسطين التاريخية، فقاسى معهم الشهيد القائد/ أبو عبد الله عُسرة بيوت المخيم ذات المساحة المتواضعة والمغطاة بألواح الأسبست التي لا تقي برداً ولا حَراً.
ومن شوارع المخيم الفقير إلى مسجد العودة المجاور لبيته في مخيم الشابورة بدأ الشهيد/ أبو عبد الله رحلة الالتزام الديني منذ صغره، فلم يترك شعيرةً أو نشاطاً دعوياً في المسجد إلا وكان أول الحاضرين المشاركين رغم حداثة سنه، وقد كان المسجد بوابة التحاقه بحركة الجهاد الإسلامي مبكراً ضمن فئة الأشبال، ليشارك إخوانه في الحركة كافة الأنشطة الدعوية والثقافية، ولتتعرف عليه قيادة الحركة في رفح لما تميز به من صدقٍ وإخلاصٍ وسعيٍ مستمرٍ لإتقان المهمات الموكلة إليه.
ومع اشتعال الانتفاضة الأولى، كان للشهيد القائد حظٌ فيها، فقد شارك في توزيع البيانات الحركية وكذلك الفعاليات الجماهيرية العامة، وكان من السبّاقين للتصدي لقوات الاحتلال التي كان من الصعب عليها دخول مخيم الشابورة، هذا المخيم الذي عرف عنه العناد والثورة ضد الاحتلال وكان برفقة مخيم جباليا من أيقونات الثورة والانتفاضة، وقد أسفرت إحدى المواجهات الجماهيرية مع قوات الاحتلال عن إصابته إصابة خطرةً برصاص الاحتلال كادت أن تودي بحياته مبكراً –لولا عناية الله، ليعاني منها الشهيد القائد كثيراً نظراً لاقتراب الإصابة من الكبد، ويخضع للعلاج لفترة طويلةٍ قبل أن تستقر حالته الصحية.
ولكنّ أيّاً من الاحتلال أو الإصابة التي أحدثها لم تكن لتقعد الشهيد/ أبو عبد الله عن رحلة العطاء، فخلال فترة علاجه -وبعد قدوم السلطة الفلسطينية- عمل في ملف العمل الخيري وشارك إخوانه في تقديم المساعدات العينية لكثيرٍ من بسطاء المخيم من خلال جمعية الإحسان التي عمل فيها رفقة صديق عمره وجاره الشهيد القائد/ صلاح أبو حسنين الذي سبقه إلى الشهادة بأيامٍ، بالإضافة إلى نشاطه الحركي الهادف إلى تأسيس خلايا عسكرية جديدة للحركة، في إطار سعي قيادة الحركة السياسية والعسكرية نحو ممارسة حقها الطبيعي في مقاومة الاحتلال ضمن تقدير موقف بأن مشروع أوسلو ولد ميتاً ومآله الفشل لأسبابٍ يطول الحديث عنها ورؤيتها أن على كوادر الحركة السياسية والعسكرية الاستعداد للمواجهة الجديدة، وضرورة الإعداد والتجهيز، ليتسبب نشاط الشهيد القائد/ دنيان منصور تحت إطار توجيهات قيادة الحركة باعتقاله لدى أجهزة أمن السلطة الفلسطينية عدة مرات وتعرضه لتحقيقات قاسية.
ومع اندلاع انتفاضة الأقصى كان الشهيد القائد/ أبو عبد الله أحد أبرز قادة سرايا القدس، ليشارك إخوانه في التصدي للاجتياحات الصهيونية بشجاعةٍ وإقدام، ويشارك في وحدة تصنيع الصواريخ والعبوات المتفجرة، وغيرها من الأنشطة ليتميز مع إخوانه في كافة الأعمال العسكرية.
وفي عام 2007 تولى الشهيد القائد/ دانيان منصور مسؤولية ملف المعلومات في سرايا القدس وزُكّي عضواً للمجلس العسكري لسرايا القدس، فكان له بصماتٌ واضحة في هذا الملف المختص بمتابعة ورصد تحركات جيش العدو وآلياته البرية والبحرية والجوية، وأشرف على تجهيز دليلٍ مصورٍ لهيكلية جيش العدو وألويته وأسلحته وأساليب عمله ليصبح هذا الدليل مرجعاً من أهم المراجع في هذا الشأن، وربما يكون الأول على مستوى الأذرع العسكرية الفلسطينية.
وفي مراحل لاحقة جمع الشهيد/ أبو عبد الله بين مسؤولية ملف المعلومات وقيادة لواء شمال غزة في سرايا القدس، حيث صبّ تركيزه على إعادة بناء المنظومة العسكرية في لواء الشمال، وخلال فترة قيادته للواء شنّ العدو عدوان عام 2014م معركة البنيان المرصوص التي استمرت أكثر من خمسين يوماً، وأشرف الشهيد/ أبو عبد الله على تجهيز المقاتلين وإطلاق الرشقات الصاروخية على بلدات العدو الصهيوني خلالها، ورغم ضراوة هذه الحرب إلا أن الشهيد القائد بقي متماسكاً ثابتاً يعد ويجهز ويقاتل ككل المجاهدين والمناضلين الفلسطينيين الذين يظهر معدنهم في لحظات الشدة، فأظهر الشهيد القائد معدنه ورفض الانسحاب من المعركة رغم قصر مدة توليه قيادة لواء شمال غزة وعدم إلمامه الكامل بالطبيعة الجغرافية للمنطقة ورغم عشرات المبررات التي كان يمكن أن تبرر له الانسحاب، لكنّه تدبر قول الله تعالى:" وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ " الأنفال (16)، ورفض أن يكون من المتولين يوم الزحف.
وبتاريخ 04/08/2014م وبعد أكثر من شهرٍ على المعركة تمكنت طائرات الاحتلال من تحديد مكان الشهيد القائد/ دانيان منصور "أبو عبد الله" وأطلقت عليه صواريخها ما أدى إلى ارتقائه وارتقاء الشهيد/ عبد الناصر العجوري وعددٍ من أبناء عائلة نجم في مجزرةٍ بشعة ارتكبتها قوات الاحتلال، رحم الله شهيدنا القائد/ أبو عبد الله وسائر شهداء شعبنا ومقاومتنا وألحقنا بهم مقبلين غير مدبرين.