كتبَ العالمِ والمُصلحِ الجزائري عبدالحميد بن باديس عن الحرية مقالاً بعنوان (عيد الحرية)، جاء فيه: "حق كل إنسان في الحرية كحقه في الحياة، ومقدار ما عنده من حياة هو مقدار ما عنده من حرية، المتعدّي عليه في شيءٍ من حريته كالمُتعدّي عليه في شيءٍ من حياته... وما أُرسل الله الرسل، وما شرع من شرعٍ إلاّ ليعرف بنو آدم كيف يحيون أحراراً...". هذه الفقرة تلّخص فلسفة فكر الحرية عند الشيخ عبدالحميد بن باديس، فالحرية عنده جوهر الحياة ورسالة الإسلام، وبفقدانها يفقد الإنسان معنى حياته ومغزى إسلامه. وهذه الرؤية المستنيرة للحرية هي رؤية تيار الجامعة الإسلامية الذي يمثله الإمام المُجدد ابن باديس، كما يمثلها الشيخان المُجدِدان: جمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده. وفكر تيار الجامعة الإسلامية التنويري هو أحد روافد فكر حركة الجهاد الإسلامي في فلسطين، ورؤيتها للحرية هو الينبوع الذي استقت منه الحركة رؤيتها، ولا غرابة في ذلك؛ فقد بدأت الحركة رؤية فكرية تجديدية، انبثق عنها مشروع سياسي نهضوي، تبلور في حركة ثورية تحررية، تسعى إلى تجديد الفكر، وتحرير الإنسان والأرض.
الحرية في الفكر الديني للجهاد الإسلامي أساسها حرية العقيدة، فمبدأ الحرية تقرر في الإسلام ابتداء من حرية العقيدة بترك الناس يختارون عقيدتهم بإرادتهم الحرة بعد إرشادهم إلى خير النجدين، وهدايتهم إلى أحسن الطريقين"، وبعد ذلك " فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ "، وفق قاعدة الآية "لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ"، هذه الرؤية سُجلّت في الوثيقة الفكرية للحركة تحت نفس العنوان (لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ)، ونصه: "من الثابت في العقيدة الإسلامية عدم إكراه غير المسلمين من أهل الكتاب ومن في حكمهم على اعتناق الإسلام، وتمكينهم في دار الإسلام ممارسة عبادتهم وتنظيم أحوالهم الشخصية، وشؤونهم الدينية وفق تعاليم دينهم". أما الجهاد بالسيف فقد شرع في الإسلام ليس لإكراه الناس على اعتناق الإسلام؛ بل لإزالة العوائق المادية التي تحول بين الناس ودعوة الإسلام ليُترك الناس أحراراً في عقيدتهم، ولإزالة الأنظمة السياسية المستبدة التي تمنع الناس من حقوقهم الطبيعية وأهمها حقهم في الحرية... وفُرض الجهاد في الإسلام كذلك لتحرير الأرض، وصد العدوان، ودفع الظلم، وحماية المستضعفين... وغيرها من الأسباب بعيداً عن الإكراه في الدين، وبذلك يتحقق مبدأ حرية العقيدة الذي يعتبر أحد ركائز الفكر الديني للجهاد الإسلامي.
الحرية كركيزة أساسية في الفكر الديني للجهاد الإسلامي تنسحب على فكر الحركة الوطني، ولعل أهم الأمثلة على ذلك موقف الحركة من الآخر الوطني، سواء في الإطار الديني أو الإطار الفصائلي، فالآخر المختلف دينياً ممثلاً في الموقف من المسيحيين الفلسطينيين، فقد أجاب المفكر الشهيد فتحي الشقاقي- مؤسس حركة الجهاد الإسلامي – عندما سُئل عنهم وموقعهم من الثورة، فقال: "المسيحيون الفلسطينيون شركاء لنا في الوطن والتاريخ والمصير، ولقد عاشوا معنا نفس الحضارة، وعندما نُعطي النضال وجهته الإسلامية، فهذا برنامج عمل وليس عقيدة مفروضة على أحد، فنحن نؤمن بما قاله القرآن (لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ)... إننا نقبل في حركتنا مشاركة إخواننا المسيحيين لنا في الحركة والنضال دون أن يغيروا في معتقداتهم الدينية شيئاً". والآخر المختلف فصائلياً ممثلاً في الموقف من الحركات الوطنية والقومية بمضامينها العلمانية والماركسية، فقد كان المُفكر الشهيد فتحي الشقاقي يبحث عن القواسم المشتركة معها على أرضية تعدد الرؤى الفكرية والسياسية، وهذا ما أكدته الوثيقة السياسية للحركة في جدلية تجمع بين التعدد والوحدة، ونصها:" العمل على تحقيق الوحدة لا يلغي الاختلاف في الرؤى، والتباين في الأهداف والوسائل، فيما بين القوى والفصائل الفلسطينية"، وفي أطروحة تجمع بين الاختلاف والاتفاق، ونصها:" إرساء العمل الوطني على اللقاء في القواسم المشتركة على قاعدة تعزيز ما اتفقنا عليه، والتحاور حول ما اختلفنا فيه".
والحرية في الفكر الاجتماعي للجهاد الإسلامي ينسجم مع فكرها الديني والوطني، والموقف من حرية المرأة خير مثال على ذلك، فالحركة اعتبرت إنجاز حرية المرأة في صلب مشروعي التحرير: تحرير الفكر، وتحرير الأرض، ولذلك ربطت الوثيقة السياسية بين تحرير المرأة ومشروع المقاومة والتحرير، ورأت في تحرير المرأة تعزيزاً لدورها النضالي ومشاركتها في المقاومة والعمل الوطني والإسلامي، ورفع مكانتها في المجتمع، كأحد أسباب قوة مشروع المقاومة والتحرير، والوثيقة الفكرية للحركة أكدت على حرية المرأة في ضوء مبدأ التوازن بين واجبات المرأة وحقوقها، وفي حدود الضوابط والآداب الإسلامية. ولكاتب هذه السطور إسهامات عديدة في موضوع حرية المرأة بالمنظور الإسلامي الحضاري الوسطي الذي تؤمن به الحركة منها مقال (صمت المرأة عورة)، الذي قدم رؤية لتحرير المرأة بعيداً عن التطرفين: الغربي الذي يحررها من الإسلام والفطرة، والديني الذي يقيدها بالإسلام والشرع، والنموذج الإسلامي لحرية المرأة وفق هذه الرؤية يعمل على تحرير المرأة بالإسلام وليس من الإسلام، وتخليص المرأة من الظلم وليس من الفطرة، ويرى في صمت المرأة عن حقوقها عورة، أما صوتها المُدافع عن حقوقها وحقوق شعبها وأمتها ثورة.
والحرية في الفكر السياسي للجهاد الإسلامي منسجم مع فكرها الديني والوطني والاجتماعي، ولعل الموقف من (الديمقراطية) خير دليل على ذلك، ففي الوقت الذي وجدت الحركة الإسلامية التقليدية في الديمقراطية نقيضاً للإسلام، وجدت حركة الجهاد الإسلامي في الديمقراطية انسجاماً مع مبادئ الإسلام، فلا يوجد مشكلة لديها في الديمقراطية مفهوماً ومضموناً، فجوهر الديمقراطية يتفق مع مبادئ الحكم في الإسلام لا سيما مبدأ الشورى، ومبدأ مشاركة الجماهير في القرار السياسي بآليات محددة، ولذلك كتب الشقاقي عن الديمقراطية" ليس لأحد مصلحة في حضور الديمقراطية مثلما للإسلاميين، وسيبقى من مصلحتنا الحفاظ عليها، وعلى مبدأ التعددية وتداول السلطة في إطار احترام إرادة الأمة، واحترام الدستور التي ترتضيه الأمة بحرية". وتحت عنوان (الديمقراطية) اعتبرت الوثيقة الفكرية للحركة أنَّ "الآلية الديمقراطية في اختيار الشعب لحكامه بالانتخاب الحر والمباشر، والتداول السلمي للسلطة، في إطار المرجعية الإسلامية، لا تتنافى وتعاليم الإسلام ومقاصده، بل هي لون من ألوان تنفيذ الشورى في هذا العصر".
وانطلاقاً من الفكر السياسي للحركة المؤمن بالحرية والديمقراطية ربطت الوثيقة السياسية للحركة بين قدرة الأمة على تجاوز أزماتها الداخلية وتحدياتها الخارجية وبين مقدار الحرية الموجود لديها، ولذلك رأت "ضرورة تعميق ثقافة الحوار والشورى والديمقراطية واحترام التعددية السياسية وحقوق الإنسان المادية والمعنوية، وإطلاق الحريات العامة" كشرط أساسي لدعم عوامل القوة في الأمة. كما ربطت بين حرية الإرادة الوطنية ومشروع التحرير الوطني، فأكدت على "أهمية تحرير الإرادة الفلسطينية، واستقلال القرار الوطني الفلسطيني بعيداً عن الارتهان لجهات خارجية أو الانصياع للإملاءات الأمريكية والصهيونية" كشرط أساسي لإنجاز مشروع التحرير الوطني، وفي إطار الأمة فقد ربط فكر الحركة بين إرادة الأمة وتخلصها من التبعية السياسية والاقتصادية والثقافية، وتخلصها من القابلية للاستعمار في نفوس أبنائها من جهة، كشرط لإنجاز مشروع نهضة الأمة ومشروع تحرير فلسطين من جهةٍ أخرى.
الخُلاصة مما سبق أنَّ الحرية في فكر الجهاد الإسلامي ينسجم مع الاتجاه التحرري في الإسلام القائم على فكرة (العدل الإلهي)، فالله – سبحانه وتعالى- هو الذي خلق في الإنسان حرية الإرادة والفعل؛ ليتحمل مسؤولية أعماله ثواباً أو عقاباً، وهذا معيار إنسانية الإنسان وكرامته، ولذلك كان مبدأ (لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ) هو أساس فلسفة الحرية في الفكر الديني والوطني والاجتماعي والسياسي، لمشروع تحرير الفكر والانسان والأرض، وجوهر مشروع الجهاد الإسلامي الثوري، الذي يعتبر الفكرة قبل الطلقة. والرؤية قبل الحركة، كي لا تزيغ الطلقة أو تنحرف الحركة... وهذا يتطلب ديمومة الثورة، واستمرار المقاومة، ليصبحَ الإنسانُ حراً بروحه وإرادته قبل جسده وفعله. وصدق الأديب اليوناني الكبير (نيكوس كازانتزاكيس) في روايته (الحرية أو الموت) عندما قال على لسان أحد أبطال روايته: " عندما أقاتل في سبيل الحرية طوال حياتي فإنني سأموت إذن رجلاً حُراً".