في 15 يوليو/تموز 2020، عقد الصحافيّ المغربيّ والناشط الحقوقيّ عمر الراضي مؤتمراً صحفيّاً يردُّ فيه على الاتهامات التي تناقلتها وسائلُ إعلامٍ محليّة حول قيامه بالتجسس على بلده لصالح دولٍ غربيّة، وذلك عبر العمل على تقارير ذات طابعٍ صحافيّ لكنها "تمسّ سيادة المغرب".
اعتبر الراضي خلال كلامه أنَّ التضييقَ الذي يتعرض له ما هو إلا نتيجةً طبيعيّةً للصراع بين المغرب ومنظمة العفو الدوليّة "أمنستي"، بعد نشر الأخيرة في يونيو/ حزيران 2020 تحقيقاً قالت فيه إنّ هاتفه تعرّض لهجماتٍ متعددة من أجل اختراقه، وذلك باستخدام برنامج "بيغاسوس"، الذي صنعته شركة "NSO" الإسرائيلية.
بعد عامٍ من ذلك التحقيق، أي في يوليو/تموز المنصرم، عادت منظمة العفو لِتنشُرَ تحقيقاً مُطَوَلاً هذه المرة، بالتعاون مع منظمة "فوربيدن ستوريز" Forbidden Stories و17 مؤسسة إعلاميّة حول العالم، تتقدّمها "واشنطن بوست" الأميركيّة، و"غارديان" البريطانيّة و"لوموند" الفرنسيّة. يُقدّم هذا التحقيقُ المؤلفُ من عشرات التقارير بياناتٍ ووثائق تُدلّلُ على استخدام برنامج "بيغاسوس" لاختراق 50 ألف هاتفٍ محمول لناشطين وصحافيّين وحقوقيّن، ورجال سياسة ورؤساء دول، من عربٍ وعجم.
بعض من تاريخ الشركة
تأسّست NSO الإسرائيليّة عام 2009 بواسطة 3 شبان إسرائيليين اختاروا اسم الشركة حسب الحرف الأول لاسمِ كلٍّ منهم. في البداية كانت هذه "الستارتاب" بعيدةً عن مجال التجسس، فقد عكفت على تطوير برامج تتعرّف على الأشياء التي تمرُّ في شريط فيديو (ملابس، أجهزة إلكترونية، أثاث) وتقترح على المُشاهد روابطَ لشرائها من على الإنترنت.
في الوقت نفسه، عملت الشركة مع غيرها على برنامجٍ يُساعِدُ زبائن شركات الاتصالات على التحكم في هواتفهم عن بُعد عند الحاجة. وخلال إحدى المعارض الخاصّة بالتكنولوجيا، التقى أحد مؤسسي الشركة بأحد المسؤولين الاستخباراتيين الغربيّين، فاقترح عليه الأخير استثمار هذه التقنية في التجسس، لأن ذلك سيُحدِثُ ثورةً تقنيّة في المجال، وسيكون له عائدٌ ماليٌّ أكبر بآلاف المرات، فكانت الفكرة.
تلقّفت الشركةُ الفكرةَ وانطلقت للتخصص في برامج التجسس، أو ما تُسمّيه هي "الحماية الإلكترونيّة". فتحت الشركة البابَ على مصراعيه لاستقطاب مجموعةٍ من القراصنة الذين خدموا في وحدة 8200 في جيش الاحتلال (وحدة الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية المسؤولة عن التجسس الإلكتروني)، إلى جانب عددٍ من المحاربين القدامى في جيش الاحتلال من الذين يمتلكون شبكة علاقاتٍ قويّة مع الحكومات التي قد تدفع الغالي والنفيس من أجل الحصول على هذه التكنولوجيا المتطوّرة.
وقد بدأ الحديث عن منتج "NSO" الأبرز عام 2016، عندما كشف مختبر "سيتيزان لاب" الكنديّ تعرض هاتف الناشط الإماراتيّ أحمد منصور للاختراق قبل أن يُعتقل ويختفي في ظروفٍ غامضة.
بعض مما كشفه التحقيق الأخير
حسب التحقيق الأخير، فإنّ المكسيك تحتل المركز الأول في العالم من حيث عدد أرقام الهواتف التي تتجسس عليها من خلال "بيغاسوس"، وذلك بمجموع 15 ألف رقم. ثمّ تليها الإمارات، التي تتبع حوالي 10 آلاف رقم. من بين الأرقام المستهدفة إمارتياً أرقام العديد من الشخصيات المهمة، أكبرهم صالح الرئيس العراقيّ الحالي، ومصطفى الكاظمي رئيس الاستخبارات السابق الذي أصبح رئيسا للحكومة وعادل عبد المهدي رئيس وزراء العراق الأسبق، وعدد من المقربين من الرئيس اليمني عبد ربه منصور الذي تدعمه الرياض وأبوظبي في الحرب الأهليّة اليمنية، بجانب شخصيات ديبلوماسيّة أخرى.
أما السعودية، فقد استخدمت "بيغاسوس" للتجسس على عدد من الناشطين والصحافيّين والسياسيّين، من بينهم شخصياتٌ في النظام المصريّ كمصطفى مدبولي رئيس مجلس الوزراء المصري الحالي، وزميله سامح شكري وزير الخارجيّة، بالإضافة إلى القطري ناصر الخليفي، مدير قنوات بي إن سبورت، ورئيس فريق باريس سان جيرمان الفرنسيّ، ومؤخراً كشف عن استخدامها إياه للتجسس على راشد الغنوشي، زعيم حركة "النهضة" التونسية.
كما أظهر التحقيق الاهتمام الخليجيّ الكبير بالشخصيات السياسيّة والعسكريّة اللبنانيّة، كرئيس الجمهورية ميشيل عون، ورئيس الحكومة السابق سعد الحريري، ووزير الخارجيّة السابق جبران باسيل، وحاكم البنك المركزي اللبناني رياض سلامة، ورئيس حزب القوات اللبنانيّة سمير جعجع، والعديد من قيادات حزب الله اللبنانيّ.
وبعيداً عن المشرق العربيّ، كشف التحقيق أنَّ المغرب وضع أرقام عددٍ من الصحافيّين والناشطين الفرنسيّين على قوائم المراقبة عبر "بيغاسوس"، بالإضافة إلى 14 وزيراً فرنسيّاً، على رأسهم رئيس الوزراء الفرنسي السابق إيدوار فيليب. ليس هذا فحسب، بل يكشف التحقيق عن وجود رقم الرئيس الفرنسيّ فرانسوا ماكرون نفسه على اللائحة. أما الأكثر غرابة، فهو وجود أرقام للأسرة المالكة من بينها رقم الملك محمد السادس، وقد اعتبرت وسائل إعلام فرنسية أنّ هذا يُشير إلى تعرض القصر نفسه للتجسس من طرف أجهزةٍ أخرى.
من المكسيك إلى الطوغو: "إسرائيل" تراقبك
في يوم 26 سبتمبر/ أيلول 2014، اختفى 43 طالباً من كلية راؤول ايسيدرو الريفيّة للمعلمين بولاية غيريرو جنوب المكسيك بعد اعتقالهم من طرف الشرطة المكسيكيّة. بعد سنواتٍ من البحث أعلنت المكسيك وفاتهم ولم يعثر أحدٌ على الجثث. تشير التحقيقات إلى أنّ الشرطة المحليّة سلّمتهم لإحدى العصابات الإجراميّة التي يُشتبه في أنها قتلتهم وأحرقت جثثهم. بقيت القضية معلقةً وسط مطالب حقوقيّة من منظمات عالميّة بالكشف عن مصيرهم. لم يتم الأمر حتى الآن، لكن ما كشف عنه تحقيق "فوربيدن ستوريز" هو أنَّ أرقام أولياء أمور هؤلاء الطلبة كانوا على قوائم تجسس السلطات المكسيكيّة، الزبون رقم 1 في العالم الذي يستعمل برنامج "بيغاسوس".
وبعيداً عن المكسيك، وتحديداً في العاصمة المجرية بودابست، كشف التحقيق عن استعمال السلطات للبرنامج الإسرائيلي للتجسس على 300 رقم من بينهم صحافيين حاولوا التحقيق في قضية تغيير مقر المصرف الدولي للاستثمار من موسكو إلى عاصمة المجر. أما في الطوغو، فتشير المعلومات المسربة إلى أن الحكومة المحليّة لم تكن سعيدةً بتبني بعض الناشطين نضالاً يطالب بالانتقال الديمقراطي، فقرر حسب المصادر ذاتها- هذا البلد الإفريقي المعروف بعلاقته القوية مع دولة الإحتلال الاستعانة بمنتج "NSO" لمعرفة كواليس هذا النضال.
الهند هي الأخرى بدأت باستعمال "بيغاسوس" مباشرة بعد زيارة ناريندرا مودي رئيس الوزراء الهندي لـ"إسرائيل". ضمَّت قائمة المستهدفين الهنديّة صحافيّين وناشطين حقوقيّين وشخصيات دبلوماسيّة من السعودية وإيران والصين وأفغانستان ومسئولين محليّين عن منظمات عالميّة، كمنظمة بيل وميلندا غيتس، وزعيم المعارضة راهول غاندي، ثم الوزير الأول الباكستاني عمران خان، وصولاً إلى بُستانيّ يعمل في حديقة أحد الوزراء في الحكومة الهنديّة. بل أشارت تقارير صحافيّة أنّ الهند زرعت بواسطة "بيغاسوس" أدلّة مزيّفة في هواتف بعض المعارضين، ثم قامت باعتقالهم ومحاكمتهم بناء عليها.
"إسرائيل" تختار زبائنها
لم تُلقِ دولة الإحتلال بالاً لتبعات البرنامج الذي توافق وزارةُ دفاعها حصراً على بيعِهِ لعددٍ من الحكومات دون غيرها، فهي لم تهتم أبداً لمطالبات المعارضة المجريّة بإقالة فيكتور أوربان رئيس الوزراء الحالي، ولا باشتباه تورط "بيغاسوس" بشكلٍ غير مباشر في اغتيال الصحافيّ السعوديّ جمال خاشقجي بعد اختراق هاتف صديقه وخطيبته. كما أنّها لم تهتم بورود أرقام أولياء أمور الطلبة المكسيكيين الذين تمت تصفيتهم سنة 2014.
كانت "إسرائيل" تتعامل مع كلِّ هذا بتجاهل، حتى ورد - في التحقيق الأخير - رقم الرئيس الفرنسيّ على قوائم التجسس المغربيّة. على الفور، زعمت "إسرائيل" أنها فتحت تحقيقاً في الأمر، وأن وحدة خاصّة من "وزارة الدفاع" قامت بزيارة مقرّ الشركة، وأكدّ غانتس في السياق ذاته أنّ حكومته تأخذ كلّ ما ورد عن فرنسا على محمل الجدّ.
بعد ذلك بساعات، حطّت طائرةُ غانتس في باريس للقاء نظيرته الفرنسيّة فلورانس باتي، والتأكيد على عدم اختراق البرنامج الإسرائيليّ لهاتف الرئيس الفرنسيّ ولا لوزراء الحكومة الفرنسيّة. علّقت صحيفة "هآرتس" على هذا التحرك السريع نوعاً ما بالقول إنّه يشير إلى أنّ :"الرجل الأبيض خطٌّ أحمر".
في هذا السياق، فإنّ مصادر من داخل شركة "NSO" كانت قد صرّحت أنّ الحكومة الإسرائيليّة ربطت منحها الترخيص للشركة بعدم بيع أيٍّ من منتوجاتها هذه لأي بلدٍ أو جهةٍ تستخدمها للتجسس على أميركا وروسيا وعلى "إسرائيل" نفسها بطبيعة الحال. يشير ذلك إلى أنّ تل أبيب تضع لنفسها خطوطاً حمراء لا تتجاوزها، ويبدو أنّ خطّاً متعلقاً بأوروبا الغربيّة سينضمُّ لهذه الخطوط.
يُذكر أن الحكومة الإسرائيلية هي المخولة حصرياً بإعطاء الموافقة على تعاون شركة "NSO" مع الدول والحكومات المهتمة بحيازة هذه التقنية، ما يعني ببساطة أنّ "إسرائيل" هي من تختار زبائنها، حتى لو أرادت الشركة نفسها التراجع عن أحدهم. إذ كشفت تقارير صحفية أنَّ الشركة فكّت تعاقدها في وقت سابق مع السعودية بعد اغتيال خاشقجي إلا أن السلطات الإسرائيلية ضغطت على "NSO" من أجل مواصلة التعاون مع نظام محمد بن سلمان.
وفيما يتعلق بالتحقيق الأخير، قالت الحكومة الفرنسيّة إنّه في حالة تم التحقق من مزاعم التحقيق الصحافيّ فإنّ هذا سيكون له تبعات خطيرة. أما الحليف الأميركي، ورغم عدم استهدافه بشكل مباشر، فإنّه أبدى قلقه من الأمر، إذ أكدّت صحيفة "واشنطن بوست" أنَّ توتراً دبلوماسيّاً طرأ على العلاقة بين واشنطن وتل أبيب، إذ طالب مستشار الرئيس الأميركي جو بايدن لشئون الشرق الأوسط من موظف بوزارة الدفاع الإسرائيليّة توضيحات أكثر حول فضيحة التسريبات. فيما طالب أعضاء ديمقراطيون بالكونجرس بتقنين استعمال هذه البرنامج عوض انتظار تبريرات "إسرائيل".
في المقابل، تحاول حكومة الاحتلال إلصاق التهمة بالدول المستخدمة التي - حسب زعمها - لم تحترم التعاقد الأساسي الذي يتيح لها استعمال "بيغاسوس" من أجل "محاربة الإرهاب وتجارة المخدرات والإتجار في البشر والبيدوفيليا". إلا أنّ "هآرتس" أكدّت أنَّ العقود الموقعة مع هذه الحكومات تلزمها باحترام قوانينها المحليّة، لا القوانين الدوليّة، وهو ما يُعطيها مساحةً كبيرةً للتلاعب بشأن طريقة الاستخدام.
وسعياً لمحاولة "إنقاذ سمعتها" وأيضاً مبيعاتها وصادراتها لدول العالم، اجتمع عددٌ من الشركات الإسرائيلية المتخصصة في "الأمن السيبراني" وعلى رأسها "NSO" مع محاميين متخصصين في القوانين الدوليّة ذات العلاقة بما يخصّ القرصنة والتجسس. هدف الاجتماع كما أعلن هو النقاش في تداعيات فضيحة التسريبات، والبحث في أساليب عمل مشتركة، والخروج بقرارات تنظيمية حول أسلوب العمل، في محاولة لإنقاذ الموقع الذي تتصدره "إسرائيل" في مجال الصناعات الأمنيّة التكنولوجيّة.
رغم هذه الفضيحة، وما سبّبته من أزمات دبلوماسيّة، لا شك أنّ "إسرائيل" مستمرة في بيع تكنولوجيتها المتطوّرة وأسلحتها القاتلة التي جرّبتها مراراً على الفلسطينيّين لتستخدمها حكومات العالم ضد خصومها ومعارضيها وكلّ من قد يخطر على بالها. وربما تفتح هذه الفضيحة الباب على "إسرائيل" للبحث عن طرق لبيع تلك المنتجات بشكل لا يُلحِقُ الضرر بأهدافها الاستراتيجية.