قائمة الموقع

العمل الخيري في زمن الجائحة.. مواجهة شاملة في ظروف استثنائية

2021-08-15T15:53:00+03:00
د. عصام يوسف.jpg
بقلم/ د. عصام يوسف

يعيش قطاع العمل الخيري أوضاعاً استثنائية فرضتها جائحة "كورونا" سيما من ناحية تحديد الأولويات، وأهمية استحداث منظومة عمل جديدة تتسم باستنفار الجهود والطاقات كافة، بما يتواءم مع آليات عمل وأدوات غير تقليدية، يستدعي حضورها حجم الكارثة وسرعة مباغتتها، والتي أدت فيما أدت إليه إلى شلل في مختلف قطاعات ومناحي الحياة. 

وتكمن الغاية في التعامل بذهنية و"ميكانيزم" جديدين ومختلفين مع الجائحة، في خلق حالة استنهاض في العمل الخيري والإنساني، أكثر شموليةً واتساعاً، تستند إلى قيم التكافل والتراحم في المجتمعات الإسلامية، لتجسيد أسس التلاحم المجتمعي كواقع، ليصل إلى مرحلة يكون فيها كالسد المنيع في مواجهة الجائحة وتداعياتها. 

واستدعت شمولية العمل الخيري والإنساني منذ بدء الجائحة انخراط جهود مختلفة، تمثل طيفاً واسعاً متنوعاً من العاملين في العمل الإنساني، حيث ساهمت –إلى جانب المؤسسات الحكومية- منظمات وجمعيات العمل الخيري، والمجتمعي، فضلاً عن جهود شبابية تطوعية برزت بصورتها الزاهية والمشرقة خلال الجائحة، حيث بدا أفرادها وطواقمها كجنود مجهولين في ميدان حرب مكافحة انتشار فايروس كورونا. 

وعملت على أساس ذلك، المؤسسات الخيرية جنباً إلى جنب مع الفرق التطوعية الشبابية، وضمن جهود مكثفة، ومتواصلة، سيما خلال فترات الحظر التي اتبعتها غالبية دول العالم للحد من انتشار الوباء، إلى تنفيذ الحملة تلو الأخرى بهدف إيصال الأغذية والأدوية ومواد التعقيم، وغيرها من الاحتياجات الأساسية للأسر الفقيرة، ولكل من تقطعت بهم السبل، بصورة تسعى لتقديم أنموذج المنظومة الإنسانية المتكاملة، وخط الدفاع الإنساني الحصين في وجه الكارثة. 

وسعت "الهيئة الشعبية العالمية لدعم فلسطين" لتكون جزءاً من المؤسسات والهيئات التي حاولت أن ترسخ مفاهيم المسؤولية المجتمعية منذ بدء الجائحة، حيث عملنا على حشد طاقات وجهود المؤسسات الخيرية والإنسانية لتتجنّد من أجل خدمة مجتمعاتها، والتي يعتبر المجتمع الفلسطيني، سواء داخل الأرض الفلسطينية أو في مخيمات الشتات، أحدها، وإن كان لمعاناته الكثير من الخصوصية، خاصةً وأنه يقف في وجه رياح الجائحة منهكاً وضعيفاً، نتيجة لما راكمته انتهاكات الاحتلال، وممارساته الهادفة لإبادة الفلسطينيين، وهضم حقوقهم، من عذابات على مدى عقود من الزمن. 

فقد اجتهدت المؤسسات الخيرية العاملة من أجل فلسطين، من أجل سد النقص الهائل الذي تركته حالة انشغال المؤسسات الدولية الإنسانية بمواجهة تداعيات الجائحة في مناطق مختلفة من العالم، وعدم استيعاب المؤسسات العربية والإسلامية الإنسانية لهول الكارثة التي داهمت الجميع، إلى جانب ضعف الحالة الفلسطينية نتيجة عدم وجود كيان سياسي حقيقي، يطالب بنصيب الشعب الفلسطيني من الدعم الدولي الإنساني، في وقت شهدت فيه الجائحة في بداياتها تسابقاً محموماً من قبل العديد من الحكومات على المستلزمات الطبية للوقاية من الوباء، ناهيك عن ترك اللاجئين الفلسطينيين في مخيمات اللجوء، في مهب الريح، إذا ما أدركنا عجز وكالة "الأونروا" عن أداء دورها الاعتيادي، وتقليصها للعديد من الخدمات الصحية والتعليمية والإغاثية المقدمة لأسر اللاجئين الذين يعتمدون بدرجة أساس على هذه الخدمات. 

وللجرح الفلسطيني الغائر في غزة، شكل آخر من المأساة، عمقته 15 عاماً من الحصار الإسرائيلي الجائر، وحروب واعتداءات عسكرية بأحدث أسلحة القتل والإبادة، تركت الغزيين عرضةً لتفشي الوباء، واحتمالية إيقاع العدد الأكبر من الإصابات، دون أدنى قدرة على التصدي لتداعيات الجائحة، وارتفاع أعداد الإصابات، إذا ما علمنا بإمكانيات القطاع الصحي شديدة التواضع، بعد أن عمد الاحتلال الصهيوني على تدميره بشكل ممنهج طيلة السنوات الماضية، من خلال الحصار والحروب، واستهداف مؤسساته وكوادره الطبية، فضلا عن طواقم الإسعاف. 

ولكونها أحد أهم المصادر لسد الفجوة بين ضعف المعونات التي تقدمها الدولة وبين تزايد حاجة الفقراء، في الأحوال الاعتيادية، فما بالك في ظل مواجهة شاملة لعدو غير مرئي يهدد البشرية بكينونتها، وتطورها وتحضرها، فإن للجمعيات الخيرية أدواراً هامة ومحورية تلعبها، لتصبح معها بالتالي رأس حربة في المعركة ضد الوباء يعول عليها في ناحية تمتين جبهة الدعم الإنساني، وتدخل في إطار الـ "ديناميات" المعدّة للمعركة. 

تدلل على ذلك أبجديات وبديهيات العمل الخيري التي تقوم على مبدأ حفظ الأنفس والأرواح، في الدرجة الأساس، وبالتالي كرامة الإنسان، حين يتعلق الأمر بمكافحة الفقر والعوز، بينما يأتي في ذات السياقات دعم صحة الإنسان سواء بالوقاية أم بالعلاج، عبر توفير الدواء والمعدات والمستلزمات الطبية الضرورية لذلك، وغير ذلك مما يتعلق بحاجات الناس، حيث الإجماع على كافة المستويات العلمية والفقهية والمنطقية. وغيرها، بأن مؤشرات قياس أفضلية العمل الإنساني والخيري، تشير إلى ما هو أشدها حاجة وإلحاحاً، ونفعاً لبني البشر. 

وفي حين كانت بوصلة "الهيئة الشعبية العالمية لدعم فلسطين" تكمن في تحشيد الدعم لأبناء الشعب الفلسطيني في ظل ما يعانيه من كربات ومعاناة مركبة، نتيجة استمرار الاحتلال، وامتداد أشكال وأساليب الطغيان والبطش التي يمارسها ضد الفلسطينيين، فإن ذلك نابع من منطلقات فهمها الشامل بأن دعم صمود الشعب الفلسطيني يعد بالضرورة دعماً لهوية وكيان أمة بأسرها، خاصةً وأن سياسات دولة الاحتلال، على مدى عقود من الزمن، تثبت يوماً بعد آخر بأنها تهدف للسيطرة والهيمنة على مقدرات الأمة، وصولاً للتحكم الاقتصادي والسياسي والاجتماعي والثقافي بحاضرها ومستقبلها، مما يعني بالتالي بأن دعم الشعب الفلسطيني هو دعم للأمة ولحضارتها. 

وفي ذات الوقت، فإن دعم المجتمعات العربية والإسلامية، وتعزيز استقرارها السياسي والأمني والاقتصادي، فيه إسناد وقوة للشعب الفلسطيني ولقضيته، حيث ينعكس ذلك على تعزيز إرادة أبناء الأمة ومعهم الفلسطينيون في الصمود، وتحملهم في قبضهم على جمرة النضال من أجل الحقوق، وحفاظ الأمة على وجهها الحضاري الإنساني، وإيصالها لرسالتها المفعمة بمضامين السلام والتعاون والتواصل بين بني البشر كافة.

انطلاقا من حالة الوعي تلك، بأهمية دور العمل الخيري في الظروف الاستثنائية كالأوبئة والكوارث، وتمدده في فراغات تتركها قطاعات أخرى، تعجز عن مواجهة هذه الظروف منفردة، سعت "الهيئة الشعبية العالمية لدعم فلسطين" إلى تحشيد طاقات مؤسسات العمل الخيري بكلياتها، لصالح مواجهة تداعيات جائحة "كورونا" وما حدث خلالها من كوارث، تركت آثارها وتحدياتها الإنسانية الكبيرة، فقد بدأت جهود المؤسسات والجمعيات بتوزيع مواد التعقيم والمنظفات، والمستلزمات الطبية، فضلاً عن الأغذية منذ بواكير الوباء في مناطق مختلفة من بلدان العالمين العربي والإسلامي.

وجاءت فاجعة انفجار مرفأ بيروت في الرابع من أغسطس من العام 2020، والذي خلّف أكثر من 190 قتيلا، وأكثر من 6 آلاف جريح، بجانب دمار مادي هائل وخسائر تتجاوز 15 مليار دولار، بحسب أرقام رسمية، لننخرط معها في الجهود الإغاثية الرامية لدعم المتضررين من الكارثة، والتخفيف من مصاب الأشقاء في لبنان، من خلال إطلاق حملة "الوفاء لإغاثة بيروت"، جرى خلالها توزيع المواد الغذائية ومياه الشرب، والأدوية، والتكفل بإعادة إعمار عدد من الأبنية المتضررة جراء الانفجار.

وتبعت كارثة انفجار مرفأ بيروت بأيام، فاجعة فيضانات السودان، حيث شهدت أحياء الخرطوم على ضفاف النيل ورافديه “الأزرق” والأبيض” فيضانات أدت إلى تدمير أكثر من 5 آلاف منزل، ومصرع ما يزيد عن 100 شخص، حسب السلطات حينها، لتطلق معها الهيئة بالتعاون مع مؤسسات خيرية حملة "الوفاء لإغاثة السودان"، حيث قامت بتوزيع مواد الإيواء من خيام، وأغطية، ومستلزمات منزلية.

وتتوالى الكوارث في الزمن "الكورونا" بأشكالها المختلفة، حيث كانت إحداها نقص مادة الاكسجين اللازمة لأجهزة التنفس الصناعي في المستشفيات الخاصة بالمرضى المصابين بالفايروس، فيما سجلت عدد من الدول وفيات نتيجة نقص الاكسجين، وقد دعونا المؤسسات والجمعيات الخيرية، وأهل الخير كي يهبوا لإنقاذ حياة المرضى من خطر الموت بسبب نقص الأكسجين.

ولم يكد ينقضي شهر مايو من العام الجاري حتى تشن دولة الاحتلال حربها الهمجية على قطاع غزة، سبقه زيادة وتيرة بطشها بأهالي مدينة القدس، وتصعيد انتهاكاتها في الأماكن المقدسة، وقد أبادت خلال حربها على القطاع عائلات بأكملها، مرتكبةً كحال حروبها في كل مرة جرائم حرب ضد المدنيين، حيث سجلت حصيلة الخسائر استشهاد 260 فلسطينيا، من بينهم ما لا يقل عن 129 مدنيا، منهم 66 طفلاً، إلى جانب تدمير آلاف المنازل، وإلحاق الأضرار بمؤسسات حيوية كالمستشفيات والمراكز الصحية، والمدارس، وغيرها من المؤسسات.

لتستنفر معها مؤسسات خيرية من مختلف البلدان العربية والإسلامية، طاقاتها لتوفير الدعم الإغاثي لأهالي مدينة القدس المحتلة، وقطاع غزة، كان من ضمنها جهود عدد من المؤسسات، والمحسنين الكرام، التي انصهرت ضمن بوتقة قافلة "أميال من الابتسامات" التي نجحت في إيصال كميات من المواد الغذائية، إضافة للأدوية والمستلزمات الطبية، خلال الأيام الماضية، وتستعد خلال المرحلة الحالية لإدخال 35 سيارة إسعاف بعد الانتهاء من تجهيزها وإعدادها لهذا الغرض.

في سردية ما سبق، أمثلة ونماذج قمت بتقديمها بشكل سريع وموجز، ولا تعد كونها قطرة من غيث العمل الخيري المنهمر دائماً، وعلى مر العصور، وعلى مدار السنة، وفي كل المواسم، بل وطالما في داخل كل إنسان سوي قلب ينبض بالخير، وعقل سليم لم تتلوث فطرته، يؤمن بإنسانية الإنسان، وحقه في الحياة الكريمة.

تلكم الروح التي يجب أن يتحلى بها كل إنسان على وجه الأرض بشكل عام، وكل مسلم بشكل خاص، لديه القناعات الأكيدة بشمولية العمل الخيري، واتساع فضاءاته، حيث يتلخص ذلك في قول الرسول الكريم (صلى الله عليه وسلم) بأن "خير الناس أنفعهم للناس"، حيث لم يحدد صلوات الله وسلامه عليه، عرقاً أو جنسية أو طائفةً أو فكراً ما، في موجبات وتكليف الأداء الخيري والإنساني، وذلك لأن الإنسان هو مقصد الخير، وأصله، وأساسه، ومحوره، حيث يقول سبحانه وتعالى: "ولقد كرمنا بني آدم".

اخبار ذات صلة