كتب أمير البيان شكيب أرسلان في كتابه زمن العروبة الأبتر الصادر في نوفمبر عام 1931 وتحديدا صفحة 110 يقول " إن العرب لا يزالون مصابين بأمراض أخلاقية شنيعة قد تؤخر من نهضتهم، وقد تضر بحياتهم السياسية، وقد تشمت بهم أكثر من عدو. وأشنع هذه الأمراض وصول الأنانية وحب الذات منهم إلى حد قلما يصل إليه غيرهم. فتجد الواحد يريد الحط من أخيه ولو بذهاب مصلحة أمته. لا يفيق من سكرته إلا بعد خراب البصرة. هذا مرضهم القديم الذي سقطوا به وأجمع المؤرخون حتى من أعدائهم على أنهم ما سقطوا إلا به ولا تزال هذه العلة قائمة إلى اليوم".
مناسبة استدعاء ما سلف رغم مرور قرن إلا عقد من الزمان عليه، تصريح للوزير العربي في حكومة الاحتلال عيساوي فريج في 10 أغسطس قال فيه :"هناك اتصالاً وتفاهماً مباشراً مع الأشقاء في السعودية ودول الخليج، في ما يتعلّق بالتهديدات الإيرانية.."، أن يتواصل فريج مع أشقائه في السعودية فهذا ممكن فهو وزير التعاون الإقليمي في الحكومة الإسرائيلية، ولكن أن يبرر التواصل مع السعودية لمواجهة إيران فهذا غير مفهوم، لأن التطبيع بين تل أبيب ماض بالبعبع الإيراني أو بدونه، فما كان على الوزير العربي أن يقع في سوء التقدير هذا. لأن في الأمر سذاجة وهي ببساطة الاستقواء بالاحتلال الإسرائيلي لمجرد مواجهة تهديد إيران.
المفارقة أن فريج لم يتوقف ليقول لنا كيف سيواجه التهديد الإيراني بالتواصل مع أشقائه في السعودية لكنه تنبأ بأن السفر من تل أبيب إلى مكة لأداء فريضة الحج سيكون متاح قريبا. مرة أخرى نحن هنا أمام استدعاء للبعد الديني ولكن في غير موضعه ومحله، وفي كلا الاستدعائين البعبع الإيراني والذهاب للحج من تل أبيب إلى مكة دلالة واضحة بأن الإعلان عن التطبيع السعودي مسألة وقت فقط لا غير؛ لا سيما وأن أشقاء فريج في السعودية لم ينفوا التواصل ولم يكذبوه.
قبل أن يعلن فريج تواصله مع أشقائه في السعودية بيومين فقط، كانت المحكمة الجزائية السعودية تصدر حكمها على ممثل حركة حماس هناك محمد الخضري 83 عاما بالحبس لمدة 15 عاما- مع إعفاء لنصف المدة-، ضمن أحكام طالت 69 أردنيا وفلسطينيا. ويبدو أن توقيت الحكم بيئته وظرفه ردا على تلميح فريج وتلويحه.
ولأن زمن العروبة الأبتر ممتد امتداد الهزيمة النفسية ولأن بعض العرب مصرون على البقاء في الدرك الأسفل من الموقع والموضع، ويهرولون صوب تل أبيب أكثر من هرولتهم صوب أنفسهم- بدليل أن العلاقة بين تل أبيب وبعض العواصم العربية تتفوق على العلاقات العربية البينية-؛ لم يمض على تصريح فريج وتلميحه إلا ثلاثة أيام حتى خرج علينا في 13 أغسطس رئيس لجنة الدفاع والداخلية والشؤون الخارجية في المجلس الوطني الاتحادي بالإمارات، علي النعيمي، في صحيفة إسرائيل اليوم الأكثر تطرفا بين الصحف العبرية والتي بالمناسبة تكتب فيها الإماراتية نجاة السعيد، ليخبرنا بأن "غزة غير محتلة من الإسرائيليين بل إن حماس تحتلها.."، ولو كانت الإمارات تُجري انتخابات لعلم النعيمي بأن حماس منتخبة بالأغلبية. لكنه عمى البصيرة الذي دفع برئيس لجنة الدفاع الإماراتي ليرى في "التطبيع فرصة لفتح الأبواب ليس لإسرائيل والإمارات فقط بل للمنطقة بأسرها". ويبدو أن أحد مقتضيات فتح الأبواب مهاجمة المقاومة الإسلامية في فلسطين ولبنان...!
وفي زمن الردى يتواصل التردي العربي في التسابق تباعا صوب تل أبيب، فهذا نائب وزير الخارجية البحريني الشيخ عبد الله بن أحمد آل خليفة، يوقع اتفاق بين بلاده وإسرائيل لمواجهة إيران، وأطلق على مذكرة التفاهم تلك إطار "حرب الأفكار"، وتهدف للتعاون بين الجانبين في مجال البحوث، ولا أدري فيم يمكن أن تتعاون البحرين مع إسرائيل وأية أبحاث تلك التي يمكن أن تكون أرضية مشتركة بينهما.
ويبدو أن الكرم العربي لا يجد هدية يقدمها إلى تل أبيب أفضل من مهاجمة إيران، ففعل الشيخ عبد الله ذلك ولكن من على ثرى القدس المحتلة وهو يعقد مؤتمره الصحفي، ترى لو علم الأمير شكيب أرسلان بأنه سيمر على العرب زمان يقيمون فيه مؤتمراتهم الصحفية في القدس المحتلة لمهاجمة إيران فماذا كان سيسمي كتابه. ولو علم أن الشيخ جاء لإسرائيل للاستجمام والإقامة أربعة أيام والتقى برئيس الكيان ووزير خارجيته وقبلهم على خشمهم. ثم تعرى من ملابسه وغطس برفقة المدير العام لوزارة الخارجية الإسرائيلية آلون أوشبيز في أحد شواطئ البحر المتوسط ؛ الذي قام بنشر مقطعا مصورا على حسابه في تويتر لابتداع يوثق الدبلوماسية تحت الماء.
تلك الدبلوماسية التي تمنع الفلسطيني من دخول أراضيها بجواز سفره وتوقع اتفاق مع إسرائيل يُعفى بموجبه حملة الجواز الإسرائيلي من التأشيرة..! ثم تخبرنا الصحافة العبرية بأن هذا ليس الاحتفال الأول وأن الصديق الوفي اعتاد أن يأتي في أوقات فراغه للغوص والاستجمام في إسرائيل. وهذه المرة غطس في رأس الناقورة. ثم ذهب لقاعدة عسكرية إسرائيلية والتقى مع "بت كالمان"وهو ضابط برتبة لواء ويرأس إستراتيجية الجيش الإسرائيلي وفرقة الدائرة الثالثة، المعروفة عسكرياً باسم"قيادة إيران" وهي هيئة تأسست قبل عام للتخطيط للحرب العسكرية ضد إيران.
هرولة بعض العربان صوب تل أبيب لم يعد سرا كما أن التطبيع لم يعد حكرا على قبيلة دون غيرها، بل ربما يصعب حتى حصر ما وصل إليه، بما فيه لقاء نتنياهو مع بن سلمان، وهو بالمناسبة قديم قدم الخيبة العربية الموغلة في الهزيمة، بل يذهب الإعلام العبري بعيدا في التفاصيل التي لم ينكرها شيخ أي قبيلة حتى انه يذكر مدة اللقاء بالساعة كلقاء ولي العهد بنتنياهو برعاية بومبيو الذي امتد خمس ساعات. ويزيد إعلام تل أبيب الشعر بيتا فيقول أن الزيارات السرية العربية ذات الطبيعة الأمنية تجري من حين لآخر منذ عقود ويجريها ملوك ورؤساء عرب ورؤساء مخابرات وضباط حلوا كلهم ضيوفا على الموساد ورئيس الوزراء لكنهم حرصوا فيما مضى على أن تبقى زياراتهم سرية، الاستثناء غير المألوف هو ما قام به الشيخ عبد الله بن أحمد الذي نشر صورته مع اللواء الإسرائيلي في القاعدة العسكرية، وتطوعت الرقابة العسكرية الإسرائيلية بتمرير التحليل والتعليل ففسرت بأن بن أحمد أراد أن يُظهر للإيرانيين عمق علاقات بلاده مع إسرائيل.
إن حصر مظاهر التقارب الخليجي مع تل أبيب اكبر من أن يُحصر، وهو تقارب يفوق الفهم بل إن المرء يصعب عليه التعثر في فهم أسبابه، وهو اكبر منه تطبيع وتقارب وتفاهم وتحالف - منذ فبراير الماضي تدور مفاوضات خليجية إسرائيلية بمشاركة السعودية لتكوين تحالف امني دفاعي بهدف مواجهة إيران- انه يشبه المرض الأخلاقي الذي نوه إليه وحذر منه أمير البيان شكيب أرسلان قبل 90 عام، وكان يصفه بزمن العروبة الأبتر.
أن تقرر الإمارات والبحرين وباق القبائل الذهاب لتل أبيب قد يكون مفهوما، أن يصف فريج العرب بالأشقاء قد يكون مباحا، ولكن أن تلحق السعودية بثقلها الديني والسياسي والاقتصادي وبكل ما تعنيه للمسلمين وللأمة بالهرولة الحاصلة وان تتخذ من شيطنة ومهاجمة ومعاداة حماس والجهاد وحزب الله واليمن وسوريا وإيران مدخلا للتطبيع والتحالف مع الصهيونية فهذا زمن أردى من زمن العروبة الأبتر.