بقلم د. وليد القططي
وصف المؤرخ المصري عبد الرحمن الجبرتي حال الجيش المملوكي في مصر مُعلِلاً هزيمته أمام الحملة الفرنسية في معركة الأهرام في تموز/يوليو 1798م، فكتب في الجزء الرابع من كتاب "عجائب الآثار في التراجم والأخبار" هذه الفقرة: "ولما كان يوم الجمعة سادس الشهر، وصل الفرنسيون إلى الجسر الأسود، وأصبح يوم السبت، فوصلوا دينار، وعندما اجتمع العالم العظيم من الجند والرعايا والفلاحين المجاورة بلادهم لمصر... ولكن الأجناد متنافرة قلوبهم، منحلة عزائمهم، مختلفة آراؤهم، حريصون على حياتهم وتنعّمهم ورفاهيّتهم... مرتبكون في رؤيتهم، مغمورون في غفلتهم، هذا كلّه من أسباب ما وقع من خذلانهم وهزيمتهم".
بهذا الوصف الدقيق لفقدان إرادة القتال، أبدع الجبرتي صورة تُفسّر سبب هزيمة جيش المماليك الفاقد لإرادة القتال، وكلّ جيش مُشابه فقد إرادة القتال التي تنفث روح الثبات والشجاعة في جنود الجيش في ميدان القتال، وتقذف حياة الصمود والرجولة في المُقاتلين في ساحة النزال، فيُصبح الجيش جسداً بلا روح وجسماً بلا حياة.
ومن دون إرادة القتال، يُصبح المال الذي أُنفق على الجيش تسليحاً وتدريباً وترويضاً مثل الحرث في الماء أو الزرع في الهواء، ويُمسي الجيش بعدده وعديده مجردَ حشدٍ من الرجال يرتدي زياً موحّداً يُسمى زوراً بالزي العسكري، تماماً كالجيش الأفغاني المُتبخِر بفعل حرارة إرادة القتال وروح النصر لدى مُقاتلي حركة "طالبان".
وقد تبخّر مع الجيش البائد دولته ونظامه، وبقيت لأميركا الحسرة على عشرات المليارات من الدولارات التي أنفقتها على جيش ليس بجيش، ودولة دون الدولة، ونظام فاقد للنظام؛ مليارات لم تُجدِ نفعاً أمام فقدان إرادة القتال دفاعاً عن دولة وهمية خاوية، ونظام حكم هش، ونخبة حاكمة فاسدة، وصفوة مثقفة معزولة، وطبقة غنية مُترفة، وفلول مجاهدين مُستأنسين... وقد صدق الرئيس الأميركي جو بايدن فيهم عندما علّق على سقوطهم السريع قائلاً: "لقد منحناهم كلّ فرصة لتقرير مصيرهم. ما لم نتمكّن من توفيره لهم هو الرغبة في القتال من أجل هذا المستقبل".
مشهد سقوط كابول السريع الذي أحزن الرئيس الأميركي مُستغرباً فقدان النظام وجيشه ونخبته الرغبة في القتال هو كلاكيت ثاني مرة. المرة الأولى كانت في العام 1992م عندما انهار الجيش الأفغاني المصنوع على عين الاتحاد السوفياتي، ومعه انهار النظام الشيوعي ودولته المصطنعة، بعد أنْ خسر الاتحاد السوفياتي الحرب الباردة أمام الولايات المتحدة الأميركية، وولّى الجيش الأحمر الأدبار مهزوماً مدحوراً من أفغانستان أمام مقاومة المجاهدين الأفغان.
المشهد الأفغاني أعاد التاريخ تصويره عشرات المرات كلَّما حلَّ الاستعمار ورحل تاركاً خلفه جيشاً صنعه على عينه، وأرضعه حليب التبعية والذِلة، وأعطاه كل شيء ما عدا إرادة القتال، ذلك أنها أشياء لا تُعطى ولا تُشترى، وكيف تُعطى وهي مصنوعة من كرامة تراب الوطن الممزوج بدماء أبطاله الشهداء وعرق عماله الكادحين، وكيف تُشترى وهي مجبولة من كبرياء أديم الأرض المُعبّق برائحة أجساد الآباء والأجداد... فكان مشهد سقوط كابول اختزالاً لكل مشاهد سقوط جيوش مُخلّفات الاستعمار عبر التاريخ... وما سقوط سايغون في فيتنام وجيش لحد في لبنان عنّا ببعيد.
سرّ السّقوط السريع لجيوش مُخلّفات الاستعمار في أفغانستان وغيرها هو في عدم امتلاك إرادة القتال، وتبعية الجيش والنخبة الحاكمة للاستعمار هو السرّ في فقدانها، والتبعية للاستعمار ناتجة بدورها من القابلية للاستعمار والاستحمار والعبودية لدى النخبة الحاكمة وحلفائها المثقّفين المتغربين والاقتصاديين الانتهازيين، الناتجة من الهزيمة النفسية والاستلاب الثقافي أمام الاستعمار الغربي.
في المقابل، امتلاك إرادة القتال هو سرّ النصر الذي حقَّقته حركة "طالبان" الإسلامية، وكل الثوار المقاومين للاستعمار عبر التاريخ، كثوار فيتنام وكوبا والجزائر ولبنان... الَّذين امتلكوا إرادة قتال عنيدة تستند إلى عقيدة قتالية صلبة، منبثقة من عقيدة دينية تحريرية، أو أيديولوجية فكرية ثورية، أو تراث ثقافي مقاوم... فشكّل ذلك مخزوناً روحياً لا ينضب، ينهل منه الثوار، فيعطيهم القوة والثبات في المعارك، ويمدهم بالقدرة والاستعداد للتضحية في الملاحم حتى تحقيق إحدى الحسنيين: النصر أو الشهادة.
بعقيدة النصر أو الشهادة، امتلكت حركة "طالبان" الأفغانية إرادة القتال وروح النصر على مدار 20 عاماً من الثورة والجهاد، فقدَّمت نفسها كحركة تحرير وطني هدفها تحرير أفغانستان من الاحتلال الأميركي ووكلائه في أفغانستان، واعتبرت أنَّ مرجعيَّتها الدينيّة والثقافيّة مستقلَّة تأبى التبعيَّة للاستعمار، ونابعة من عقيدة الشّعب الأفغانيّ المسلم، واعتمدت على حاضنة شعبية واسعة ببعديها القبلي والديني، منحتها نوعاً من الشرعية الشعبية والثورية.
وتستطيع حركة "طالبان" أنْ تحافظ على هذا النصر الحاسم بتحقيق الوحدة الوطنية الأفغانية، لتصبحَ قبيلة الشعب كله وحركة الوطن بأسره، وبإنجاز الوحدة الإسلامية في أفغانستان، لتستوعب كل المذاهب في بوتقة الأمة الإسلامية الواحدة، وبإمكانها تطوير النصر بانتقالها من فقه الجماعة إلى فقه الدولة، ومن الرؤية الأحادية إلى الرؤية التعددية، ومن الجمود الديني إلى التجديد الديني، ومن التصلب الفكري إلى الإبداع الفكري، وهذا يتطلب ثورة جذرية في المفاهيم التي بنت عليها حركة "طالبان" منظومتها الفقهيّة والفكريّة.
وتستطيع حركة "طالبان" أن تحافظ على النصر وتطوره إذا انتبهت إلى مؤامرات الولايات المتحدة الأميركية ووكلائها العرب وأساليب الجيل الرابع من الحروب الاستعمارية، ولا تسقط في الفخ الذي سقط فيه المجاهدون البائدون وأمراء الحرب المندثرون، عندما لم ينتبهوا إلى ما كتبه المفكّر الفلسطيني فتحي الشقاقي في العام 1992م تحت عنوان "اللهم انصرنا في أفغانستان، وارزقنا الشهادة في فلسطين"، مُحذِراً من المؤامرات الأميركية قائلاً: "وأخيراً، دخل المجاهدون الأفغان كابول بعد سنوات من المقاومة والجهاد المستمر... إنَّ هذا الشعب وطلائعه وفصائله يعون أنَّ أميركا ستبقى رأس الطاغوت وزعيمه الاستكبار العالمي. إنَّ الذين يحاربون الإسلام الحقيقي في بلدانهم لن يقبلوا انتصار المجاهدين الحاسم في أفغانستان، وسيعملون جهدهم لتمييع الموقف".