بقلم/ د. وليد القططي
أثناء حفر المسلمين لخندق المدينة المنورة في غزوة الأحزاب في العام الخامس للهجرة، وعندما كان النبي- صلى الله عليه وسلم – يضرب بمعولهِ صخرة كبيرة استعصى على المسلمين كسرها، قال في الضربات الأولى "الله أكبر أُعطيت مفاتيح الشام"، والثانية " الله أكبر أُعطيت مفاتيح فارس"، والثالثة "الله أكبر أُعطيت مفاتيح اليمن". ما بين هذا الوعد الإلهي الحق للنبي وللمسلمين وفتح تلك البلاد مرت سنواتٍ، انهمك المسلمون في التخطيط للفتح، والإعداد للقوة، والتجهيز للجهاد، والعمل للنصر، وانشغل المسلمون بالأخذ بأسباب النصر والصعود، وسنن التقدم والتطور. وبعد تحقق الوعد الإلهي الصادق بالفعل البشري أبدعوا في إدارة البلاد المفتوحة واستثمار ثرواتها.
وعندما عقدت الحركة الصهيونية مؤتمرها الأول في بازل بسويسرا عام 1897م، حددت هدفها المركزي في إقامة وطن لليهود في فلسطين، استناداً إلى وعدٍ إلهي مزعوم بعودة اليهود إلى (أرض إسرائيل)، ثم انتزع الصهاينة (وعد بلفور) من بريطانيا عام 1917م بإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين التي كانت تحت الاحتلال البريطاني، وما بين هذا الوعد البريطاني الباطل وإعلان قيام (إسرائيل) مرت سنوات انهمك الصهاينة في التخطيط للاحتلال، والإعداد للاستيطان، والتجهيز للحرب، والعمل للتهجير، وانشغلوا في امتلاك عوامل القوة من الأموال والبنين، فكانوا أكثر نفيراً وقدرة على حشد القوة، وبعد تحقق الوعد البريطاني الظالم بالفعل البشري أبدعوا في السيطرة على أرض فلسطين ونهب ثرواتها.
الوعد الإلهي الحق للمسلمين، والوعد البريطاني الباطل لليهود، تحققا بالفعل البشري – الصالح والطالح – تخطيطاً وإعداداً وتجهيزاً وعملاً، مصحوباً بالأخذ بأسباب النصر والتقدم والتطور والصعود، ومترافقاً مع تسخير سنن التاريخ وليس اعتباره قاعة انتظار على رصيف أحلام الفرقة الناجية. وهذا ما ينبغي أن يكون منهجنا في قراءة ( وعد الآخرة) على مستوى الوعي والعمل، بدون إنكار يُلغي القدر الإلهي، أو إيمان يُلغي الدور الإنساني، فقدرية مجيء وعد الآخرة لا يعني استكانة المسلم وانتظاره لوقوع القضاء، ولا يعني التعامل مع التاريخ كقاعة انتظار إلى وعد الآخرة، ولا يعني إلغاء الدور الإنساني ومسؤولية الإنسان وحريته في تحقيق قدر الله في الأرض... بل يعني أنَّ التوقيت الزمني لحدوث القدر ووقوع القضاء هي من خصائص الألوهية وفعل الله تعالى.
ووعد الآخرة موجود في سورة الإسراء في أكثر من آية، أهمها قوله تعالى: " فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا"، فبعد تجميع اليهود وهجرتهم إلى فلسطين، وعلوهم وإفسادهم فيها، يأتي وعد الآخرة بتدمير علوهم وإفسادهم ودولتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين " يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ" . واختلاف مجتهدي المفسرين في زمان وتفاصيل وعد الآخرة لا يُلغي حقيقته ووجوده خاصة وأنَّ القرآن الكريم يتوّعد اليهود بتدمير علوهم وإفسادهم كلما عادوا إليهما " وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا".
هذه الرؤية لوعد الآخرة كتب في إطارها المفكر السوداني محمد أبو القاسم حاج حمد في كتابه (العالمية الإسلامية الثانية)، وفكرته جوهرها وجود علاقة بين تحقيق وعد الآخرة وبداية العالمية الإسلامية الثانية، فاعتبر وعد الآخرة نقطة تحوّل تاريخية تُنهي الإفساد والعلو الإسرائيلي ومعه كل المشروع المُعادي الاستعماري بوجهته: الغربي والصهيوني، ودورة الحضارة الغربية الاستعلائية، وتبدأ بوعد الآخرة دورة الحضارة الإسلامية الجديدة، ومرحلة العالمية الإسلامية الثانية، ولكن رؤيته لوعد الآخرة كانت من زاوية امتلاك الأمة لقوة التأثير والفعل في تغيير أحداث التاريخ لصالحها في الحضور الإلهي الكامل دون أن يُلغي مسؤولية الإنسان الذاتية كفرد وأمة عن تحديد مصيره والتحكم بمسار تاريخه، وفهم القدرة الإلهية كقوة دافعة لفعل الإنسان عندما ينسجم مع منهج الله وسننه في الكون، وهذا الفهم لدور الإنسان وفاعلية الأمة في تحقيق وعد الآخرة يُخلّصها من حالة العجز والتواكل، ويُطلق طاقاتها لإنجاز وعد الآخرة والوصول إلى العالمية الإسلامية الثانية في إطار الصراع مع الوجود الإسرائيلي وهزيمة المشروع الاستعماري الغربي.
وحتى يأتي وعد الآخرة والشعب الفلسطيني جزء من هذا الوعد الإلهي وفي قلب الفعل الإنساني، لا بد أن يقوم بدوره في إنجاز الوعد، ودوره هو مواصلة مشروع التحرير، وإبقاء جذوة الجهاد والمقاومة مشتعلة، واستمرار استنزاف كيان العلو والإفساد الإسرائيلي، والعمل على منع استقراره وشرعنة وجوده في قلب الأمة، وهذه الرؤية الإيجابية لدور الشعب الفلسطيني والأمة العربية والإسلامية في الوصول إلى وعد الآخرة امتلكها المفكر الشهيد فتحي الشقاقي قائلاً: "إنَّ مسألة تحرير فلسطين هي مسألة مشروع يُنظّم إمكانيات الأمة، ويرد على حرب العدو الشاملة بحرب شاملة، ويُبقي دور المجاهدين في فلسطين هو إحياء فريضة الجهاد ضد العدو ومشاغلته واستنزاف طاقاته وكشف وجهه البشع، وتدمير ما يستطيعون من قدراته، وإدامة الصراع حياً حتى وحدة الأمة وتحقيق النصر... نحن نرى في جهادنا دعوة لاستنهاض الأمة كي تنهض وتتوّحد وتتوّجه إلى بيت المقدس"، فرحم الله المفكر الشهيد فتحي الشقاقي الذي لم يرضَ أن يكون التاريخ قاعة انتظار للشعب والأمة إلى وعد الآخرة.
القراءة الواعية والعمل بها يُحرر الإبداع الإنساني ويُشعل فاعليته التاريخية، ويُطلق الفعل البشري ليُغير مسار التاريخ، وتؤدي إلى إخراج وعد الآخرة من القدر الإلهي في عالم الغيب إلى القدر الإلهي في عالم الشهادة، وتضمن عدم تحويل اليقين بوعد الآخرة إلى قاعة انتظار على رصيف التاريخ إلى وعد الآخرة، فلا نقف طوابير آدمية مُهملة تنتظر دورها للدخول من بوابة التاريخ، ولا نعقد مؤتمرات خطابية موِحشة ينتظر الخطباء فيها دورهم على منصة توزيع الغنائم... فهذا اليقين المبني على الإيمان والوعي والعمل بوعد الآخرة يدفعنا إلى مزيدٍ من وضوح الرؤية، وقوة التخطيط، وفاعلية العمل، كتكليف إلهي، وإلى القيام بدورنا في حرب التحرير كشعبٍ ومقاومة، ومعنا كل المؤمنين بمشروع المقاومة لتحرير فلسطين من الكيان الصهيوني، وتحرير الأمة من الاستعمار الأمريكي، حتى يأتي وعد الآخرة ونحن كذلك.