غزة

19°

وكالة شمس نيوز الإخبارية - Shms News || آخر أخبار فلسطين

القصفُ على غزّة: التربة تموت أيضاً!

آثار القصف على أرض زراعية.jpg
شمس نيوز - غزة

خلالَ العدوان الإسرائيلي الأخير على قطاع غزّة تعرّضت مجملُ عناصر البيئة، وعلى رأسها التربة الزراعيّة، لأضرارٍ كبيرة. بحسب وزارة الزراعة في غزّة، وصلَ إجماليّ الخسائر المباشرة وغير المباشرة في قطاع الزراعة ما يقارب 204 مليون دولار.

ووفق وزارة البيئة، فقد تضرَّر ألفا دونمٍ زراعيّ بشكلٍ جُزئيٍّ أو كامل، وتدمّرت مساحة تصل إلى 100 دونم من الدفيئات الزراعيّة بشكلٍ كامل، وتلوّث إثر غارات القصف الإسرائيليّ نحو 350 ألف مترٍ مربع من تربة القطاع الزراعيّة. هذا عدا عن الحفر العميقة التي خلّفتها الغارات في الأراضي الزراعيّة والتي تؤثّر بشكلٍ مزمنٍ على التربة.

ليست مجرد غارة

قرفص ليُحرِّر قدمَه من كومة الأسلاك، ثمّ أَمال برأسِهِ لجهة اليمين، وقال: "شايف شجرة هالزيتون؟ والله كإنها ولد ميت إلي!"، ثم نهض بوجهٍ حزين. في العدوان الأخير، تعرّضت أرض زراعيّة يملكها المزارع حجازي أبو جراد (52 عاماً) الواقعة على مساحة أكثر من دونمين شرق قطاع غزة، لغاراتٍ إسرائيليّة عنيفة.

"كانت الأرض مزروعة بـالجزر"، يقول أبو جراد: "وكنا في بداية الموسم، وآمالنا معقودة على النتيجة، لكنها تحولت فجأة إلى حفرة عميقة". يحكي أبو جراد وتخوفه بادٍ على ملامحه، من أن تتحول أرضُه هذه إلى أرضٍ عقيمة، كما حدثَ مع أرض أخرى له تقع على مساحة نصف دونم، والتي تعرضت لقصفٍ عنيفٍ عام 2020، ولم تعد بعدها صالحةً للزراعة. يقول أبو جراد، إنّه بعد مرور نحو 5 أشهر على انتهاء العدوان (الذي وقع في مايو/أيار 2021)، لا تزال محاولاته في زراعة الجزء الذي نجا من القصف تبوء بالفشل.

وفقَ المتحدث باسم وزارة الزراعة أدهم البسيوني، خلّف العدوان الأخير حوالي 400 حفرة في الأراضي الزراعيّة، وذلك بفعل استهدافها بالقصف، بمساحةٍ لا تقل عن 500 متر مربع للحفرة الواحدة. ويُشير إلى أنّ عملية ردم الحفر مُكلفةٌ ومرتبطة بحجم التمويل والهبات الخارجيّة.

ليس أبو جراد وحده من يعاني، بل عشراتُ المزارعين الآخرين ممن تعرّضت أراضيهم لغاراتٍ عنيفة خلال الحروب وجولات التصعيد التي عاشها قطاع غزّة. بينهم أيضاً، المزارع عرفات المصري (42 عاماً) الذي تعرّضت أرضه الواقعة على مساحة ثلاث دونمات شرق بلدة بيت حانون شمال القطاع، لغارات عنيفة في التصعيد الذي حدثَ في عام 2019، والتي خلّفت حُفرتين عميقتين في الأرض، وتغيّرت بعدها خارطة الأرض الزراعيّة، كما يقول.

ما الذي يحدث للتربة بعد القصف؟

توضّح المهندسةُ أسماء النجار، من دائرة الري والتربة في وزارة الزراعة، أنَّ الغارات التي تستهدف الأراضي الزراعيّة تضرُّ بشكلٍ بالغٍ بالتربة، خاصّةً أن التربة الزراعيّة تربةٌ سطحيّة، بمعنى: أنَّ كل عناصرها الحيويّة التي تجعلها خصبةً ومناسبةً للزراعة، تتركّز في سطحها، وهذا ما يجعلها عُرضَةً للتأثر الشديد.

تشرحُ النجار أنَّ الغارات تؤثّر على التربة من نواحٍ عدة؛ تُغيّر قوامها وتفكيكها، وتقتل الكائنات الحيّة الدقيقة فيها، وتزيدُ من تركيز المعادن الثقيلة فيها بفعل المواد المتفجرة. وبحسب النجار، تواجه الوزارة صعوبةً في التعرف على أنواع المعادن الثقيلة تلك، إثر عدم توفّر أجهزة فحص التربة المتقدمة، وعملها الحالي بجهازٍ بدائيٍّ قديم، متوفر في غزّة من أيام السلطة الفلسطينيّة. وتقول إنّ الوزارة حاولت إرسال عينات من التربة المستهدفة إلى مختبرات خارج القطاع لفحصها لكنَّ الاحتلال رفض ذلك، الأمرُ الذي يُبقى الإحاطة بأثر هذه الغارات محدودةً.

لكن من أشهر العناصر المعروفة: الكوبالت، والكاديميوم، والرصاص والنحاس والالمنيوم. وإثر زيادة معدل هذه العناصر في التربة عن معدلها الطبيعيّ فإنّها تتحوّل إلى تربةٍ سامّة. أما قتل الكائنات الدقيقة فإنّه يُفقد التربةَ خصوبتها، وتُصبح وفق التعريف المنهجيّ، تربةً ميتةً، بحاجةٍ لإعادة تأهيلٍ قد يستمرُّ لـ5 سنوات وأكثر، وفق النجار.

الحلّ.. أزمة أخرى

الحلُّ الوحيد لرد الحفر وتجاوز تلوث التربة هو إزالتها واستبدالها بتربةٍ أكثر صحّة من أراضٍ لم تتعرّض للقصف. لكن الخيار الذي قالت النجار، إنّه الوحيد والأنسب لتجاوز التأثير الطويل للغارات، هو أمرٌ مكلف بالنسبة للمزارعين، إذ تُكلِّف عمليةُ ردم حفرةٍ بمساحة لا تقل عن 500 متر، نحو ألف دولار.

ولمّا سألنا عن دور الوزارة في متابعة المسألة، قالت النجار إنَّ دور وزارتها مقتصرٌ على الإشراف على عملية استبدال التربة حال طلب المزارع ذلك. لكنّها لا تضع إطاراً ضابطاً يُلزم المزارعين بعدم الزراعة حتى إعادة تأهيل التربة، ولا تقدّم لهم الدعم اللازم. وذلك رغم تأكيدها بأنَّ وزارتها وجدت رابطاً بين زيادة معدلات الإصابة بأمراض السرطان في غزة والزراعة في الأراضي الملوّثة. وفي الشأن ذاته، شدّد مدير عام حماية البيئة في وزارة البيئة بهاء الأغا على أن ثمّة مخاطر غير متوقعة لعودة الزراعة في الأراضي الملوّثة.

يعتقد كثير من المزارعين أنَّ نجاح زراعة أنواع معينة في الأراضي التي تعرّضت للقصف دليلٌ على بدء تعافي التربة. لكنّ النجار تُرجع الأمر لنوع الشجر، فالخضار بأنواعها، هي زرع حساس لمكونات التربة، وإثر تركز المعادن الثقيلة بنسب كبيرة في الأراضي المستهدفة، لا يتحمل الشتل هذه العناصر، فيموت. أما الأشجار المثمرة الأخرى، كالزيتون والحمضيات، فهي قادرة على تحمّل تركّز العناصر في التربة. لكن بالمجمل، فإنّ للزراعة دون إعادة تأهيل التربة تبعاتٌ ممكنة على صحّة الناس.

هنا، يقول المزارع المصري إنّه قبل أن تتعرّض أرضه للقصف، كانت صالحةً لزراعة الخضار، كالبندورة، والخيار، والبطاطا، والباذنجان. أما بعد القصف، فلم يعد من الممكن زراعتها سوى بالزيتون والحمضيات.

بحسب النجار، فإن قلّة الأراضي الزراعيّة في غزة، هي السبب في استئناف الزراعة في الأراضي المتضررة. فالمساحة المخصصة للزراعة في غزة هي 130 كيلو متراً مربعاً من إجمالي مساحة غزّة البالغة 360 كيلومتراً مربعاً.

ولذلك، لا يجدُ المزارع بعد انتظارٍ طويل سوى أن يتعامل مع المسألة بنفسه. وبحسب شهادات من المزارعين، فإنَّ أكثرهم يردمون الحفر العميقة في أراضيهم بنفس التربة المتضرّرة. ويحاولون عبر الأسمدة والمياه بثّ العافية في الأرض، دون تركيز على تبعات ذلك على صحّة الثمر والناس.

يقول أبو جراد: "لا أحد حتى اللحظة عرض علينا ردم الحفرة"، فالأمر"كما كل مرة، علينا أن نتحمل ثمنه وحدنا". مشيراً إلى أن وزارة الزراعة وفرق حصر الأضرار تؤديّ مهمتها المعتادة عقب كلِّ عدوان: " تأتي. تُسجل، ثم تتلاشى ولا حس ولا خبر بعدها".

يواجه أبو جراد فاتورةً مضاعفة، في حال قرّر أن يتكفّل بردم الحفرة في أرضه، إذ تقع أرضه وسط مربعٍ زراعيّ، وهو ما يعرقل وصول الشاحنات والمعدات، وفي حال سُمح له، فإنه سيتكفل بالأضرار التي ستلحق بالأراضي المجاورة.

طوال الحروب الأربعة وجولات التصعيد العسكري بدءاً من عام 2008، وصولاً إلى 2021، تكبّد أبو جراد خسائر تجاوزت قيمتها الـ21 ألف دولار. وحتى اليوم "لم أتلقَ فلساً واحداً سوى مجرد مساعدات عينية، لا تغني ولا تسمن" يقول.

كذلك الحال كانت مع المزارع المصري، الذي اضطرَّ لاستدانة نحو ألفي دولار، لردم الحفر التي حدثت في أرضه عام 2019، بعد أسابيع من ركضه على أبواب الجهات المختصة، "لأنّ الزراعة هي مصدر دخله الوحيد، ولا أحد يعنيه حقيقة موتنا أو حياتنا".

مخازن خضير: وحش التلوث الصامت

لا تقتصر أضرار المزارعين على الاستهداف المباشر لأراضيهم أو تبعات استهداف البنى التحتية في المنطقة، بل تمتدُّ لأكثر من ذلك. إذ يعانونَ أيضاً من فشل مشاريعهم، إثر سقوط الثمر عن الأشجار بفعل غارات الاحتلال القريبة من أراضيهم وقوّة الانفجارات.

تضافُ هذه الخسائر التي "لا تعترف بها الوزارة ولا أي جهة من الجهات المختصة"، وفق قول المزارع أبو جراد إلى خسائر المزارع المركبة، مضيفاً: "أن ثمار شجر الزيتون في أرضه المجاورة للأرض المستهدفة، قد سقط أكثرها على الأرض، وبعض الشجر اقتلع من مكانه، إثر الشظايا".

كذلك كان استهداف الاحتلال لمخازن خضير للأسمدة والمبيدات الزراعية في منطقة السيفا، بالقرب من شاطئ بيت لاهيا، شمال القطاع، من أكثر الأحداث التي استدعت القلق خلال العدوان الأخير لتبعاتها على الصحة العامة. 6 مخازن كبيرة تقع على (مساحة 4.5 دونم)، وتضم نحو 259 طناً من المبيدات والأسمدة الزراعية عالية الخطورة والكيميائية، قصفها الاحتلال واشتعلت النيران بداخلها لمدة 12 يوماً، دون أن تتمكّن فرق الإطفاء من السيطرة على الحريق.

قصف الاحتلال المخازن رغم علمه بما تحتويه من مواد سامة، وما يمكن أن يتركه القصف من تبعات على السكان والبيئة. في الأيام الأولى أنتجَ الحريق دخانًا سامًا انتشر على نطاق واسع، وقد تأثرت شريحةٌ واسعة به، خصوصًا أبناء المنطقة الذين يصل عدد سكانها لنحو 3000 نسمة.

أزيلت الأسمدة والمبيدات المحترقة مؤخرًا، بعد نحو 4 أشهر من انتهاء العدوان والحريق، واستمرار انبعاثات ضارة منها. يقول أبو هيثم خضير وهو أحد المالكين للمخازن المستهدفة إنّ سيدة من أقربائه بالإضافة إلى اثنتين من المنطقة أجهضتا في ظروفٍ غير مفهومة، وإنّ سيدة أخرى من عائلته تعاني من عدم استقرارٍ في حملها، وسط ترجيح الأطباء لهم بأن السبب: كان استنشاق الغازات السامة. بالإضافة إلى ذلك، تظهر حالات طفح جلدي عليه وعلى أفراد عائلته ومنطقته بشكلٍ واسع ومؤذٍ إلى جانب حالات اختناق، عدا عن الرائحة الكريهة المستمرة في المنطقة.

"في بعض الأوقات، نشعر وكأننا نود أن نمزق جلودنا"، يقول خضير. بحسب تقرير وصلنا من وزارة الصحة، فإنّ الوزارة ترى أن للحدث انعكاساً مباشراً على عناصر البيئة الأساسية مثل التربة والمياه الجوفية بالإضافة إلى تأثيرٍ مباشر على الصحّة العامة، وأن حدوث حالات كـ"التسمم، والإجهاض، والأمراض الجلدية، والتشوهات الخلقية للأجنة، الأمراض السرطانية، العقم، وضعف المناعة" هي تبعات واردة.

وبحسب مدير دائرة صحة البيئة في وزارة الصحة، خالد الطيبي، فإنَّ ما عرقل جهود الوزارة في متابعة الحدث بشكل دقيق، هو نقصُ الخبرة والإمكانياتّ للتعامل مع مثل هذه الكوارث.

يعكسُ سلوك الاحتلال وعدوانه على البيئة، هدفه الأصيل: "قتلنا بكل الطرق الممكنة"، ما يفرض، على الحكومة بغزّة والجهات المختصة أن تتعامل بمسؤولية عالية في متابعة ما يمكن أن يشكل تهديدًا للناس وخطرًا على صحتهم وحياتهم والعمل بكلّ ما هو ممكن لدفع التهديد عن الناس.

تقرير/ عمر موسى

المصدر/ متراس