كتبَ فيودور دوستويفسكي روايةَ الفقراءِ في منتصفِ القرنِ التاسع عشر، مُصوِراً بؤسَ حياةِ فقراء روسيا المُعدَمين، وموضِحاً عمقَ مأزقِ المجتمعِ الروسي البائس، وخلال قراءةِ الروايةِ يُمكن التقاط ثلاث صور للفقر: أولها الفقر المادي المعروف لكل الناس، عندما يأكل الفقير الفتات من الطعام، ويلبس البالي من الثياب، وينتعل الممزق من الأحذية، ويسكن الوضيع من البيوت. وثانيها الفقر المعنوي عندما يفقد الفقير كرامته واحترامه واعتزازه ومكانته ودوره، فيشعر بالمذلة والمهانة والوضاعة والدونية والضعة. وثالثها الفقر الأكبر من الإحساس بالفقرين – المادي والمعنوي - عندما يشعر الفقير بديمومة الفقر، ويحس بأبدية العوز، ويدرك أزلية العُسر... وعند ذلك الحد من البأساء والضراء يصل الفقير إلى مرحلة الزلزلة التي يفقد فيها الفقراء الأمل بغدٍ أفضل، ويضيع عندهم الرجاء بمستقبلٍ أحسن، ويتوارى عنهم حُلم القادم الأجمل.
مرحلة زلزلة الفقر وصل إليها فقراء غزة، عندما أصبح عندهم الغد أردأ، والمستقبل أسوأ، والقادم أقبح، وهذا ما يُفسّر بؤس الصورة التي ظهر فيها آلاف الفلسطينيين متكدسين كعلب السردين أمام مقرات الغرف التجارية في محافظات غزة الخمس – استجابةً لإعلانٍ غامض – لتقديم طلبات الحصول على تصاريح عمل داخل الأرض المحتلة عام 1948م، بعد سنواتٍ عِجاف في انتظار فرجٍ لا يأتي، وبؤس الصورة تدل على عمق المأزق الذي وصلت إليه غزة، بوجود أجيال من الشباب والشابات توّقف قطار حياتهم عند محطة تاريخية تعيسة، لم يستطع مغادرتها إلى محطةٍ أُخرى سعيدة، بعدما اصطدم بصخرة الاحتلال والحصار، وارتطم بحاجز أوسلو والانقسام، وغرق في بحر لوثه الفساد والحزبية... فانضموا إلى طوابير الخريجين المنتظرين على أرصفة الأحلام، وجيوش العاطلين الهائمين في صحراء الآمال، وحشود المتسولين المتجولين على أبواب جمعيات الأوهام، وخُطى أفواج المهاجرين بعدما طووا كتب أحلامهم ودفاتر ذكرياتهم في حقائب سفرهم ورحلوا...
بؤس صورة عشرات آلاف الفلسطينيين المتجمعين أمام الغرف التجارية المُضافة إلى صور جموع الخريجين والعاطلين والمتسولين والمهاجرين، تُشكل وثيقة إدانة لكل المسؤولين والسياسيين والقادة في فلسطين في المنظمة والسلطة والفصائل، خاصة وأنَّ هناك وجهاً آخر للصورة لا يقل بؤساً عنها، كما جاء في (نهج البلاغة) للإمام علي بن أبي طالب – رضي الله عنه – عندما قال: " فَمَا جَاعَ فَقِيرٌ إِلاَّ بِمَا مُتِّعَ بِهِ غَنِي ". وهؤلاء السعداء من الأغنياء تراهم في الزمنين: القديم الغابر، والجديد الحاضر، من أولي القول والطول، وصفوة السادة والقادة، ونخبة التجار والثوار، ومن تبعهم بغير إحسان ممن برع في فنون الفهلوة، وحذق أصول الشقلبة، في الزمنين الغابر والحاضر، من الذين حصدوا في بطونهم ما زرعه الشهداء من أرواحهم، وجمعوا في خزائنهم ما غرسه الثوار من دمائهم.
بؤس الصورة تُعيدنا إلى عمق المأزق الاقتصادي الفلسطيني الذي كانت صورة الفلسطينيين الباحثين عن لقمة العيش آخر حلقة في مسلسل تراجيديا فلسطينية، أمّا الحلقة الأولى منه فتصور مشهد دخول الجيش البريطاني بقيادة الجنرال إدموند اللنبي مدينة القدس يوم 11 ديسمبر كانون أول عام 1917م مُحتلاً لفلسطين، لتبدأ مرحلة التمكين السياسي والعسكري والاقتصادي للحركة الصهيونية، لتتوّج بإقامة دولة (إسرائيل) عام 1948م، وهي بداية كل مأساة فلسطينية، وأهمها فقدان الأرض مصدر رزق معظم الفلسطينيين، الذي تحوّل بذلك معظمهم إلى لاجئين مشردين خارج فلسطين وداخلها، وبعد اكتمال حلقات التراجيديا في النكسة عام 1967م باحتلال ما تبقى من فلسطين المعروفة بالضفة والقطاع، أصبح الاقتصاد الفلسطيني تحت سيطرة الاقتصاد الإسرائيلي ومُلحقاً به.
ومن مظاهر تلك السيطرة والتبعية ظاهرة العمالة الفلسطينية داخل الأرض المحتلة عام 1948م تحت ضغط الحاجة والفاقة في المجتمع الفلسطيني، لحاجة اقتصادية إسرائيلية؛ ولدوافع مرتبطة بتفريغ الحركة الوطنية من مضمونها ورجالها ولم يتغيّر هذا الوضع كثيراً بعد اتفاقية أوسلو وإنشاء السلطة الفلسطينية عام 1994م بعدما رُبط الاقتصاد الفلسطيني بالإسرائيلي في اتفاقية باريس الاقتصادية. وكانت الحاجة المتبادلة للعمالة الفلسطينية موجودة لا سيما قطاع غزة الذي لا يملك موارد اقتصادية تؤهله للاستقلال الاقتصادي عن محيطه في داخل فلسطين وخارجها.
بعد الانتفاضة الثانية عام 2000م تناقص عدد العمال الفلسطينيين تدريجياً حتى توقف تماماً بعد الانقسام عام 2007م في إطار الحصار الإسرائيلي المفروض على قطاع غزة المقاوم، وساهمت الحروب العدوانية المتتالية على تدمير اقتصاد غزة الهش، وجاءت عقوبات السلطة المالية لتزيد طين الاقتصاد المنهار بلة، ولتضع على ظهر جمل الاقتصاد القشة التي قصمته، وكل تلك الأحمال المتراكمة بفعل الاحتلال وأوسلو والحصار والانقسام والعقوبات أُضيفت إلى اقتصاد يُعاني عيوباً من فعل أيدينا منها: سوء التوزيع، وفساد الإدارة، واستحواذ الحزب... فلا غرابة في بؤس الصورة لآلاف الفلسطينيين الحالم كل واحد منهم بتصريح عمل يخرج من قمقمه الجني الذي سيحل له مشكلة الفقر والعُسر، ويُنهي حالة الحاجة والفاقة، بعد أنْ عجزت القيادة المتنفذة من كسر مثلث الفلس والتعس والبؤس عندهم.
بؤس الصورة في المشهد الاقتصادي الفلسطيني يتطلب أنْ نبحث عن المشكلة داخلنا كشعبٍ فلسطيني وحركة وطنية وفصائل مقاومة، وكمؤسسات سياسية كالمنظمة وفصائلها، والسلطة وأجهزتها، لكن قتامة المنظر لا ينبغي أنْ يجعلنا نفقد بوصلة الاتهام التي تُشير إلى الكيان الصهيوني المُسبِب الأول للتراجيديا الفلسطينية، والمنبع الأساس للمأساة الوطنية، ولا ينبغي أنْ تجعلنا نفقد بوصلة الحل التي تُشير إلى أنَّ انتهاء التراجيديا وزوال المأساة لا تتم إلاّ بزوال مُسبِبها ومنبَعِها وهو الكيان الصهيوني بجرائمه المختلفة من قتل وتهجير وسجن واحتلال وحصار وحروب... وحتى ذلك الحين نستطيع أنْ نجعل فلسطين وطناً أكثر صلاحية للحياة وجدارة بالعيش، ومكاناً أعظم كفاءة للإنجاز وأهلية للإبداع، وبلداً أكبر قابلية لاحتضان أحلام الشباب والشابات، وهذا يقتضي تحمل المسؤولية الإنسانية والأخلاقية والوطنية من الجميع في تقاسم رغيف الخبز بعدالة وتكافل، وبتوّحدنا حول مشروع وطني ركيزته الأولى دعم صمود الشعب الفلسطيني فوق أرضه؛ وهذا يبدأ وينتهي بمشروع اقتصادي جوهره ثبات الشباب في وطنهم مُعزّزين مكرّمين محتضنين أحلامهم الصغيرة وأحلام وطنهم الكبيرة.