بقلم/ عبدالله معروف
أول نقطة ينبغي الإشارة إليها في قضية حي الشيخ جراح في القدس هي أن هذه القضية لم تنتهِ بعد، ولا تزال أحداثها مرشحةً للتصاعد خاصة وأنّ سلطات الاحتلال الإسرائيلي لا تجد بُداً مِن السعي للسيطرة على هذا الحي حتى النهاية، وذلك لأنّ السيطرة عليه تُعتبر حجر زاويةٍ في مشروع تهويد المدينة المقدسة من جهة الشمال.
وفي حال عدم نجاح إسرائيل في ابتلاع الحيّ فإنّ قطع الطريق بين البلدة القديمة جنوباً والأحياء العربية الفلسطينية الشمالية يتعذّر، مما يعني فشل مشروع الاحتلال في السيطرة على ما يُسمّى منطقة "الحوض المقدّس".
إنّ ما يُخيف الاحتلال مِن التقدّم بالقوة في هذا الحي هو شبح الثامن والعشرين من رمضان الماضي، حيث كان حي الشيخ جراح أحد شرارات اندلاع المواجهة المسلحة بين إسرائيل وفصائل المقاومة الفلسطينية المسلحة في غزة، والتي رسمت يومها خطّين أحمرين أمام الاحتلال: الإقدام على تهجير سكان حيّ الشيخ جراح في القدس، إضافةً إلى محاولة تغيير الوضع القائم في المسجد الأقصى المبارك.
بناء على ذلك لجأت حكومة الاحتلال إلى لعب آخر أوراقها في وجه سكان الحي من خلال نظامها القضائي، فعرضت المحكمة الإسرائيلية العليا على أربع عائلاتٍ فلسطينية في الحي "تسويةً" تحاول من خلالها تقديم خلط الأوراق ونقل الكرة لملعب سكان الحي الفلسطينيين. وتقضي هذه التسوية المعروضة أن يوافق السكان على دفع بدل إيجارٍ عن منازلهم لمنظمة "نحلات شمعون" الاستيطانية التي تدّعي ملكية المنازل، وأن يعتبرهم الاحتلال بموجب ذلك "مستأجرين محميين" من الجيل الأول ولمدة لا تقل عن 15 عاماً أو إلى الجيل الثالث. ولكي تُمعن المحكمة في خداعها للرأي العام الفلسطيني والسكان في الحي، فإنّ نصّ "التسوية" المقترح يؤكد حقّ كلّ طرفٍ من الأطراف في "ادعاء ملكية العقارات"!
أين الخطورة في هذه التسوية؟
إن الخطورة تنبع بالدرجة الأولى مِن أنّ المحكمة تقول ببساطة للسكان: اعترفوا بأنكم مستأجرون لدى منظمة "نحلات شمعون" الاستيطانية، وادفعوا لهذه المنظمة إيجارات منازلكم، ثم اصرخوا كما تشاؤون في الإعلام وفي محاكم الاحتلال أنكم "تملكون" هذه المنازل، وسنخرجكم منها لاحقاً لأنكم اعترفتم بأنفسكم أنكم مستأجرون لهذه المنازل، بدليل أنكم تدفعون الأجرة للمنظمة الاستيطانية.
هذا ملخّص ما لم يقله نصّ التسوية الذي تسرّب في الإعلام، وباللغة الصريحة التي لم تقلها المحكمة الإسرائيلية وتلاعبت فيها بالكلمات والنصوص حتى تُدخِل السكان في حيرة من أمرهم. فمن ناحيةٍ، هي تعدهم أنهم لن يخرجوا من بيوتهم في الوقت الحالي (وليس مستقبلاً)، وتقول لهم إن بإمكانهم أن "يدّعوا" أن لهم ملكية العقارات، وفي نفس الوقت تسوّغ للجمعية الاستيطانية أن تخرجهم مستقبلاً من منازلهم، بل وتعطي المستوطنين سنداً قانونياً وفعلياً وعملياً ليثبتوا ملكيتهم للعقارات لأنّ السكان الفلسطينيين سيدفعون لهم إيجار المنازل، فمالك البيت لا يدفع "إيجاراً" لمنزله!
بمعنى آخر: أعطت المحكمة العليا الإسرائيلية الكلام للفلسطينيين والفعل للمستوطنين.
والسؤال المطروح حالياً: هل يمكن أن ينخدع سكان الحي بهذه التسوية المقترحة ويعطوا للمستوطنين ما يريدونه؟ وهل يمكن أن تُحقق إسرائيل بالخداع وطُول النَّفَس ما لم تنله بالحرب والقوة؟
هناك جملة من العوامل التي قد تنعكس على أي حدث يمكن أن يحصل في هذه القضية: فالضجة الإعلامية الكبرى التي صاحبت محاولة الاحتلال إخراج سكان الحي من منازلهم جعلت الاحتلال في مأزق غير مسبوق، إذ إنه قد سبق له أنْ طرد سكاناً من حي الشيخ جراح مثل الحاجة أم كامل الكرد، ولم يواجه الاحتلال في جميع تلك الحالات موجةً من الغضب الإعلامي والدولي كما حدث هذه المرة، كما أنّ مِن الطبيعي أنّ ضخامة التغطية الإعلامية للحدث كان لها أثر كبير في وصول الأمر إلى الصدام المسلح.
ولذلك فإنّ أيّ تقدم أو تراجع لإسرائيل في هذا الملف سيأخذ بعين الاعتبار نوع وحجم وطبيعة التغطية الإعلامية للقضية، بما يعني أنّ استمرار الضخّ الإعلامي في هذا الاتجاه يمكنه أن يقطع الطريق على الاحتلال ويمنعه من الاستفراد بالسكان، كما أنّه ضروري ليكون السكان على وعيٍ وفهمٍ بخطورة ما يجري وما يعرضه الاحتلال عليهم، بل ويمنع أيّ شخص قد تضعف نفسه من الانسياق وراء الادعاءات الإسرائيلية، لأنّ الإعلام بحدّ ذاته يشكّل رقابةً على كافة الأطراف. وهذه القضية أصبحت بلا شك قضيةً وطنيةً لا يمكن لسكان الحي ولا السلطة الفلسطينية ولا فصيلٍ أو جهةٍ أو عائلةٍ أو شخصٍ أن يعتبر نفسه مرجعيتها المنفردة.
كما أنّ موقف الجهات الفلسطينية المختلفة يجب أن يكون أحد مرجّحات الاتجاه في هذه القضية، ففي الوقت الذي تتسرب فيه أنباء عن محاولات بعض الأطراف في السلطة الفلسطينية إقناع بعض العائلات في الحي بالقبول بالتسوية الإسرائيلية المقترحة، فإنّ موقف فصائل المقاومة الفلسطينية ينبغي أن يظهر بوضوح وقوة في هذا المجال. فالفصائل الفلسطينية والشعب الفلسطيني في غزة دخلوا في حربٍ سقط فيها ضحايا وجرحى ومنازل وعقارات من أجل هذه القضية، ولذلك فإنّ مسألة حيّ الشيخ جراح لم تعد تتعلق بهذه العائلة أو تلك من سكان الحي، بل أصبحت تتعلق بالكلّ الفلسطيني.
هناك نقطتان مرجعيّتان ينبغي أن ينطلق منهما فهم قضية حي الشيخ جراح: الأولى هي أنّ الاحتلال بكافة أذرعه، الحكومية والعسكرية والاستيطانية والقضائية، تعمل لصالح السيطرة على حيّ الشيخ جراح مهما حاولت هذه الأذرع لعب لعبة "الشرطي الجيّد والشرطي السيئ". والثانية هي أنّ إرادة الاحتلال يمكن أن تُكسَر في حيّ الشيخ جراح مهما أظهر مِن قوة، وقد كُسِرت إرادة الاحتلال سابقاً في الخان الأحمر وفي البوابات الإلكترونية وباب الرحمة في المسجد الأقصى المبارك، ويمكن أن تنكسر مرةً ثانيةً وثالثة ورابعة، فالاحتلال لم يكُن يوماً جيشاً لا يقهر.