الكاتب والباحث/ ناهــض زقــوت
تمثل الرواية العربية الفلسطينية فضاءً مكانياً مغايراً لفضاءات المكان في الرواية العربية، حيث أن الرواية العربية قارة في مكان جغرافي محدد. أما الرواية الفلسطينية فمكانها الجغرافي غير قار، ولكنه محدد على خريطة ممتدة على مساحة الوطن العربي، وإن كنا غير مبالغين على مساحة العالم كله، بمعنى أن مكانها متعدد ومتغير حسب الظروف والأوضاع والأحوال التي يعيشها الكاتب الفلسطيني.
لقد خلقت النكبة الفلسطينية عام 1948، حالة فريدة في التاريخ الإنساني، وهي حالة الارتحال القسري لشعب كان مستقراً في مكانه، وقاراً في بقعة جغرافية محددة على الخريطة باسم فلسطين. بعد النكبة، غابت فلسطين من الجغرافيا، ولكنها لم تغب من التاريخ والإبداع. إذ تحول الشعب الفلسطيني من شعب مستقر إلى شعب لاجئ يحمل تاريخه في كل مكان استقر فيه.
وإذا كانت كل أشكال الحياة تغيرت بالنسبة إليه، فمن الطبيعي أن تتغير أماكن إبداعاته الأدبية والثقافية، حيث لم تعد فلسطين وحدها هي مكانه الجغرافي لنشر إبداعاته، بل أصبحت أماكن استقراره هي مركز النشر والإبداع، فأصبحت عمان، وبيروت، وبغداد، ودمشق، والقاهرة، وطرابلس، هذا على مستوى المكان العربي، أما على مستوى المكان الغربي فنجد: لندن، وباريس، والولايات المتحدة، واستراليا، والمجر، وأمريكا الجنوبية.
تعد رحلة الرواية العربية الفلسطينية في الزمان رحلة طويلة، تزيد عن المائة وأربعين عاماً، فالمتتبع للأدب العربي الفلسطيني منذ صدور البدايات الجنينية الأولى للرواية عام 1885م، وتبلورها بشكل جاد في عام 1920م بصدور رواية "الوارث" لخليل بيدس، وحتى آخر رواية صدرت في عام 2020، أي ما يزيد عن تسعمائة رواية فلسطينية. يستطيع أن يلمس بوضوح تجارب هذا الأدب الروائي مع التحديات الكبرى التي فرضتها التراكمات السياسية والاجتماعية التي مرت بها القضية الفلسطينية، ومرافقتها لمسيرة هذا الشعب وتفاعلها معه في حركة النضال الوطني ضد الانتداب البريطاني والحركة الصهيونية، وصولا إلى الكفاح والنضال ضد الاحتلال الإسرائيلي، كما واكبت الرواية مسيرة الشعب الفلسطيني في بلدان المنفى والشتات، ورصدت أحوال اللاجئين والمتغيرات التي واكبت حياتهم في المخيمات، بالإضافة إلى رصدها لمتغيرات الواقع الاجتماعي بعد قيام السلطة الوطنية الفلسطينية عام 1994.
اختطت الرواية الفلسطينية لنفسها مساراً واضحاً يقوم بدور كبير في تعميق الإحساس بالقضية الفلسطينية وبلورة الهوية والانتماء الشعب الفلسطيني. لذلك مرت الرواية الفلسطينية بعدة مراحل تاريخية ارتبطت بالقضية الفلسطينية نفسها، وإن تداخلت فيها التيارات الأدبية من الكلاسيكية إلى الرومانسية وصولاً إلى الواقعية، والتجريب الحداثي، التي تعبر عن تطور الرواية فنياً. وتمثلت هذه المراحل كالتالي:
المرحلة الأولى: رواية البدايات، من 1920- 1948:
وتمثل هذه المرحلة البراعم الأولى للرواية، رغم وجود إرهاصات جنينية للرواية قبل عام 1920، كتبها أدباء فلسطينيون أمثال: ميخائيل جرجس عورا، ومحمد أحمد التميمي، إلا إن روايتهم لم ترق لمفهوم الرواية بمعناها الفني الحديث، إنما هي رؤى تعليمية وتهذيبية ودينية. لذلك تعد رواية خليل بيدس "الوارث"، ورواية اسكندر الخوري البيتجالي "الحياة بعد الموت"، الصادرتين في القدس عام 1920 البدايات الأولى.
المرحلة الثانية: رواية النكبة والبكاء على الأطلال، من 1949- 1967:
وهي الرواية التي تأخر ظهورها بسبب عدم الاستقرار الذي لاقاه الفلسطيني في تشرده، والنماذج التي صدرت في هذه المرحلة عبرت عن أهوال النكبة وما حل بالفلسطينيين، وركزت على وصف الخيام ومخيمات اللجوء وتغير أحوال الفلسطينيين. وقد حملت هذه الروايات كثيراً من الانفعال والصراخ أكثر من الاهتمام بالناحية الفنية. لذلك نعتبر رواية غسان كنفاني "رجال في الشمس" التي صدرت عام 1963، هي البداية الأولى لرواية النكبة التي وازنت بين الفن والموضوعية في عرض ملامح النكبة وما حل بالفلسطينيين.
المرحلة الثالثة: رواية النكسة والنضال، من 1968- 1987:
وتمثل هذه المرحلة رواية النكسة أو هزيمة حزيران عام 1967، وهي رواية الكفاح والمقاومة، وهنا تحول الفلسطيني إلى واقع جديد مغاير في الرؤية لواقع الفلسطيني اللاجئ أو المشرد كما نظرت إليه رواية النكبة. لقد أصبح الفلسطيني فدائيا يقاوم ويناضل المحتل الإسرائيلي من أجل استرداد وطنه المسلوب، بعد أن رأى هزيمة الجيوش العربية وأحس بأنها لم تعد قادرة على التحرير، فكان عليه أن يخرج من الخيام والمخيمات ليناضل ويدافع عن ذاته وعن حقه ولا ينتظر الآخرين. وفي هذه المرحلة أيضا يفتتح غسان كنفاني رواية النكسة والنضال، فكتب روايتي "أم سعد"، و"عائد إلى حيفا" عام 1969، ليسجل فيهما اختلاف رؤية الروائيين الفلسطينيين إلى الواقع الفلسطيني من النواح والبكاء على الأطلال إلى النضال والمقاومة لاسترداد الأرض السليبة.
وتعددت الروايات في هذه المرحلة التي تحمل الأفكار والآراء والرؤى التي تدافع عن العديد من القضايا المرتبطة بالواقع الفلسطيني الجديد، مثل: قضية الحرية والديمقراطية، وقضية المرأة، وقضية الصراع العربي – الإسرائيلي، وصورة اليهودي وعلاقته بالفلسطيني ونظرته إليه، وعنصرية الاحتلال وممارساته القمعية ضد الشعب الفلسطيني. لذلك تعد هذه المرحلة هي المرحلة الحقيقية للتكوين الروائي الفلسطيني.
المرحلة الرابعة: رواية الانتفاضة الفلسطينية، من 1987- 1994:
تمثل هذه المرحلة رواية الانتفاضة الفلسطينية الكبرى التي اندلعت في عام 1987، وركزت على ممارسات الاحتلال الإسرائيلي القمعية ضد أبناء الشعب الفلسطيني داخل الأراضي المحتلة، والتغيرات التي أحدثتها الانتفاضة في العلاقات الاجتماعية بين الناس. وقد افتتح الروائي والقاص محمد أيوب هذه المرحلة بروايته "الكف تناطح المخرز" التي صدرت في غزة عام 1990، والروائية سحر خليفة بروايتها "باب الساحة" التي صدرت في بيروت عام 1990.
المرحلة الخامسة: رواية واقع السلطة، من 1995- حتى الآن:
وهي الرواية التي تحدثت عن واقع السلطة الوطنية الفلسطينية، من حيث التصالح مع الواقع أو انتقاد الواقع، أو الهروب منه إلى مضامين مغايرة للواقع، واختلاف الرؤى حول الموقف من اتفاق أوسلو وقيام السلطة، بالإضافة إلى رصد السلبيات التي أفرزتها. وفي عام 2000 بعد اندلاع انتفاضة الأقصى، أصبح سؤال الرواية عن السلطة وعملية السلام في ظل الممارسات العدوانية الإسرائيلية.
إن هذه التقسيمات التاريخية للرواية الفلسطينية التي وضعناها هي تقسيمات افتراضية، بمعنى أنها ليست مراحل استقلالية، بل هي مراحل متداخلة، فلا يمكن أن نفصل بين مرحلة تاريخية ومرحلة تاريخية أخرى على مستوى المضمون، حيث أن العديد من كتاب الرواية في مرحلة النكسة أو مرحلة الانتفاضة كتبوا عن النكبة أو عن قضايا أخرى، أي أن مضامين الرواية الفلسطينية متداخلة في كل المراحل.