قائمة الموقع

الوعي التاريخي في فكر الشهيد الدكتور فتحي الشقاقي

2021-11-01T11:00:00+02:00
الشهيد المؤسس د. فتحي الشقاقي.jfif

بقلم/ راغدة عسيران

في أغلب دراساته الفكرية، يذكر الشهيد الدكتور فتحي الشقاقي (1951 – 1995)، مؤسس "حركة الجهاد الإسلامي في فلسطين"، وأمينها العام الأول، أهمية التاريخ والوعي التاريخي كمنطلق لفهم واقعنا والعمل على تغييره: "انه (الوعي التاريخي) المفتاح الذي بين أيدينا كي نفهم وعي ماضينا ونعي دروسه وتجاربه وعبره، وبالتالي نؤثر في حاضرنا"..فقد ربط بين تاريخ الأمة منذ تكوينها، والوعي به، حيث قال في أحدى الندوات حول مراجعة التجربة الفلسطينية إن "قراءة التاريخ غير ممكنة بدون امتلاك الأدوات السليمة للقراءة، وإلا توصلنا إلى نتائج خاطئة ومضللة. فالوعي هو أساس العلم، والعلم هو الأساس النظري للمراجعات".

لقد اعتبر الشقاقي أنه عندما "تتعرض الأمة لهزة عنيفة في حياتها" عليها العودة الى تاريخها لتنظر اليه و"تبحث من جديد شروط وجودها"، لأن بـ"تراجع وعينا التاريخي فقدنا حسّنا بهويتنا وأصالتنا، ووقفنا عاجزين عن تحديد مواقع أقدامنا".

متى يبدأ تاريخنا الذي علينا فهمه والوعي به واستخلاص العبر منه؟ كان المفكر الإسلامي الجزائري مالك بن نبي قد كتب في "شروط النهضة" أن "علينا ان ننظر الى مكاننا في دورة التاريخ" لحلّ مشاكلنا، ولكن دورة التاريخ لا تعني التاريخ الحديث مع بداية الاستعمار أو قبله، بل العودة الى بداية تشكيل الأمة، ودراسة شروط نهضتها، محذرا من الابتعاد والضياع في تحديد البداية بقوله "لعلّ أعظم زيغنا.. عن طريق التاريخ أننا نجهل النقطة التي منها نبدأ تاريخنا".

حدّد الشهيد الشقاقي "مواقع أقدامنا" في تاريخ الأمة التي كوّنها الإسلام، عندما "انطلق المسلمون باتجاه حوض الحضارات واستطاعوا في زمن قياسي أن يقيموا دولة عظيمة ومترامية الأطراف وحضارة هي أعظم الحضارات وأكثرها تأثيراً في تاريخ البشرية".

لم يكن هذا التحديد عبثا، لأن الهجمة الاستكبارية الغربية (والشرقية) على الأمة الإسلامية متواصلة منذ زمن بعيد، ولأن الرد عليها اتخذ أشكالا مختلفة عبر العصور، وما اغتصاب فلسطين وإقامة الكيان الصهيوني والسيطرة الامبريالية الحديثة على المنطقة إلا امتدادا لهذه الهجمة بأدوات مختلفة.

وقد وضّح الدكتور الراحل رمضان شلّح، الأمين العام السابق لحركة الجهاد الإسلامي، صورة هذه الهجمة في كتابه "الإسلام والغرب" الذي يمكن اعتباره تطوّيرا وتعميقا لما أسّس له فكر الشهيد الشقاقي بحديثه عن التاريخ والوعي التاريخي، وهو الذي كان من أوائل المجاهدين الذين التحقوا به وواصلوا خطه وتعمّقوا في فكره.

كما يمكن اعتبار كلمة القائد زياد النخالة، الأمين العام لحركة الجهاد الإسلامي، قبل أسابيع، في ذكرى تحرير القدس على يد صلاح الدين الأيوبي، ودغوته لمواصلة البحث في تاريخ الأمة لاستخلاص العبر: "تستحق ذكرى تحرير القدس.. أن نقف عندها ونستخلص منها العبر، لمواجهة المشروع الغربي المتجدد الذي يستهدف أمتنا العربية والإسلامية... ومعركة تحرير بيت المقدس التي خاضها القائد صلاح الدين الأيوبي لا يمكن اختصارها في معركة حطين المجيدة وحدها، بل سبقها إعداد وتجهيز وإشغال ووضع خطط على مستوى العالم العربي والإسلامي، تستحق أن تدرس كأنموذج ناجح لتحرير القدس مرة أخرى".

وكان الدكتور محمد الهندي، عضو المكتب السياسي للحركة، قد توسّع، قبل أكثر من عام، في شرح المرتكزات الفكرية والعلمية والاقتصادية والسياسية والعسكرية لانتصار القائد صلاح الدين في معركة حطين وتحرير القدس من الإفرنج.

تدلّ هذه الدراسات والمداخلات وغيرها أن الأسس الفكرية التي وضعها الشهيد الشقاقي حول التاريخ والوعي التاريخي ما زالت راسخة في الحركة وتوسّعت دائرتها لتشمل مؤرخين ومفكرين آخرين في الأمة.

في إحدى محاضراته (1994)، يشرح الشهيد فتحي الشقاقي لماذا يجب علينا الوعي لتاريخنا والعودة الى بداية تشكيل الأمة، في صراعنا مع الكيان الصهيوني، رأس الحربة للهجمة الغربية، فيقول: "الكيان الصهيوني يدرك جيداً أنه لا يستطيع الاستمرار في المنطقة إلا إذا عادت المنطقة إلى ما قبل وجود الأمة، والأمة أوجدها الجامع الحضاري الإسلامي الذي صهر الأديان والقوميات والمذاهب والطوائف والأعراق في بوتقة وجامع حضاري واحد.

العدو الصهيوني يحاول بالقمع والإرهاب وكل الوسائل الممكنة تحويل المنطقة إلى فسيفساء يمكنه الهيمنة والسيطرة عليها. فهو موقن أن استمرار مشروعه مرهون بمزيد من التجزئة والتفتيت وتحطيم مكونات الأمة وأن تعود المنطقة إلى ما قبل ظهور الإسلام.". يعني ذلك أن الإسلام وحضارته يمثلان "النقيض الكامل والحقيقي" للهجمة الغربية، ومشروع إقامة الكيان الصهيوني "تجسيد شامل لطغيان الغرب واستمرار وجوده في المنطقة". هذا ما حاول تأصيله الشهيد فتحي الشقاقي في كتبه ودراساته، والذي أصبح من أبجديات الحركة.

كما أن الوعي بتاريخنا، كما أكّد عليه مرارا الشهيد الشقاقي، يعني فهم أسس صراع الأمة مع الغرب وفهم مكانة الكيان الصهيوني في هذا الصراع. يدلّ تاريخ فلسطين الحديث، خلال الاحتلال البريطاني وما بعده، كيف تم إجهاض الثورات الشعبية ضد الغزاة من قبل القيادة الرسمية الفلسطينية والعربية، لأنها لم تدرك (أو أدركت وتواطأت) موقع الحركة الصهيونية في المشروع الغربي المعادي للأمة، خلافا "لمولانا" الشيخ الشهيد عزالدين القسام، رمز الوعي والثورة، ولكل المجاهدين والحركات المجاهدة التي واصلت معركتها ضد الصهاينة ومشاريع التسوية التي يطرحها الغرب.

في نقاشه مع الحركات الإسلامية في ذلك الوقت، التي لم تدرج القضية الفلسطينية ضمن مشروعها النهضوي، رغم مكانة فلسطين والقدس في وجدان شعوب الأمة، ينتقد الشهيد الشقاقي هذه الحركات لأنها فصلت بين وعي الذات (الإسلامية) والوعي الموضوعي (التاريخ والواقع) رغم "العلاقة الجدلية" بينهما، ما جعلها تعيش في "حالة اغتراب وضعت أفرادها في دوامة انهيار القيم وفوضى المفاهيم ومن ثم اليأس في أحيان كثيرة"، في حين أن الوعي التاريخي يعني أساسا "الوعي العميق بالإسلام وبالمشكلات الإسلامية المعاصرة وهذا يتطلب منا إيمانا أساسه المعرفة.. وعملاً أساسه العلم... ووعياً سياسياً بواقع العصر والتزاماً خلقيا بمعايير الإسلام.. "فيكرّر مؤكدا على أهمية الوعي: "علينا أن نلجأ وبدقة إلى حركة التاريخ فوق أرض الوطن الإسلامي كأداة تملكها وتسيرها سنن الله المؤثرة في هذا الكون، لنحاول إستبصار جذور الوطن الإسلامي ككل، ذلك إن أردنا فعلاً أن نعي مرحلتنا وأن نعي أهدافنا وأدواتنا".

من هذا المنطلق لمفهوم الوعي التاريخي، حدّدت حركة الجهاد الإسلامي الأبعاد الثلاثة التي جعلت من القضية الفلسطينية القضية المركزية للأمة، وهي البعد القرآني والبعد التاريخي والبعد الواقعي.

يتناول البعد التاريخي بداية الهجمة الغربية الحديثة على المنطقة، كجزءٍ لا يتجزأ من الأمة، منذ حملة نابليون، حيث تمثل إقامة الكيان الصهيوني رأس حربة المشروع الغربي ضد الأمة، وكان الشهيد قد حدّد "نتائج الهجمة الغربية في بلادنا من تجزئة وتغريب وتبعية وإلحاق".

بعد غرس هذا الكيان الغريب في "قلب الوطن الإسلامي" لضمان حالة الهيمنة وتكريس التبعية وبعد سقوط القدس، أصبح الكيان الصهيوني "أهم الأدوات وأخطرها وأكثرها فعالية في عملية قطع التواصل الحضاري والتاريخي للأمة"، ما يتطلب من الجميع في الأمة، الحركات السياسية والفعاليات والمثقفين وغيرهم وجوب النظر الى "خطورة المشروع اليهودي في فلسطين" وربط الأزمات السياسية والاقتصادية في بلدانهم بهذه الهجمة الغربية وبوجود كيان العدو على أرض فلسطين، ذلك لأن "الوحدة على فلسطين هي وحدة الوعي بأن بقاء الكيان الصهيوني يعني إفشال كل مشاريع النهضة".

اخبار ذات صلة