بقلم/ حسن لافي
لم يكن حدثاً عادياً اتخاذُ "إسرائيل" قراراً باغتيال قائد المنطقة الشمالية في "سرايا القدس"، الجناح العسكري لحركة "الجهاد الإسلامي في فلسطين" (بهاء أبو العطا)، فجرَ يوم الثلاثاء الموافق فيه الـ12 من تشرين الثاني/نوفمبر 2019، بحيث كانت الحسابات الإسرائيلية معقَّدة، كون هذا الاغتيال هو الأول لقائد من المقاومة من جانب جيش الاحتلال الإسرائيلي منذ عام 2012، وتمّ في فترة اعتيادية لا يوجد فيها حرب أو تصعيد. لذا، كانت المؤسستان الإسرائيليتان، العسكرية والسياسية، تدركان أن اتخاذ قرار الاغتيال عبارة عن كسر لمعادلة كرَّستها المقاومة الفلسطينية، ومفادها أن الاغتيال معناه الحرب. وبالتالي، كان اغتيال أبو العطا، بالنسبة إلى "إسرائيل"، بمنزلة إعلان معركة عسكرية مع المقاومة في غزة. وبالتأكيد، فإن التقديرات الاستخبارية الإسرائيلية تعلم جيداً بأن شظايا صواريخ غزة في تلك المعركة لن تقتصر على حدود مستوطنات غلاف غزة والجنوب، بل من اليقين أنها ستطال عمق منطقة "غوش دان"، وهي المركز السكاني الأكثر اكتظاظاً في الكيان، الأمر الذي حدث فعلاً في معركة "صيحة الفجر" التي خاضتها "سرايا القدس" ضد "إسرائيل".
بعد عامين على اغتيال القائد بهاء أبو العطا، ما زال التساؤل عن ماهية النظرة الإسرائيلية إلى شخصية الشهيد بهاء؟ وماذا مثّل في العقلية الإسرائيلية، في كل من المؤسستين العسكرية والسياسية لدى كيان الاحتلال؟
عاموس جلعاد، مدير معهد السياسة والاستراتيجيا الإسرائيلي، والمدير الأسبق لقسم السياسات والأمن في وزارة الأمن الإسرائيلية، والجنرال احتياط في جيش الاحتلال الإسرائيلي، أجاب عندما تمّ سؤاله عن بهاء أبو العطا، فقال إنه "يُعتبر المحرِّك الرئيس لعمليات الجهاد الإسلامي، وإنه ذو شخصية جريئة وقوية".
لم يبتعد تقدير الناطق باسم جيش الاحتلال الإسرائيلي، هيداي زيلبرمان، عمّا تحدّث به عاموس جلعاد، في أثناء تعليقه أمام الصحافيين على اغتيال أبو العطا، فقال "إننا نفهم أن بهاء أبو العطا عنصر جامح، يعمل في غالب الأحيان عبر وجهة نظره المتناقضة مع المصالح الإقليمية"؛ بمعنى أن "إسرائيل" تعاملت مع الشهيد أبو العطا على أنه عقبة شديدة أمام مخطَّطاتها الإقليمية، والتي كان أهمها في تلك الفترة:
أولاً: كانت "إسرائيل" في حاجة إلى تبريد جبهة غزة، من خلال تفاهمات تتعلَّق بالهدوء في مقابل تسهيلات في الجانب الإنساني، الأمر الذي تحوَّل، بعد عامين من اغتيال أبو العطا، إلى خطة متكاملة يطرحها وزير خارجية الاحتلال يائير لابيد، وتتبنّاها حكومته، تحت شعار "الأمن في مقابل الاقتصاد"، بعيداً عن أي أبعاد سياسية تتعلّق بالحقوق الفلسطينية كشعب يرزح تحت الاحتلال.
ثانياً: اعتبرت القيادة السياسية لدى الاحتلال الإسرائيلي آنذاك، والمتمثّلة برئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، أن استمرار استراتيجية "الساعة التاسعة " للمشاغلة، والتي كان أيقونتها الشهيد أبو العطا، والتي تحافظ على حالة من الصراع مع "إسرائيل"، تؤثّر سلباً في اندفاعة بعض دول التطبيع في اتجاه "تل أبيب"، الأمر الذي اعتبره نتنياهو هدفاً رئيساً في سياساته الإقليمية. أضف إلى ذلك أن اسم بهاء أبو العطا حُفِر عميقاً في عقل نتنياهو، في محطتين رئيستين، كان لهما تأثير سياسي مهم في حكومته، وفي شخصيته ذاتها.
الأولى، يُعتبر أبو العطا من أهم اللاعبين الرئيسيين في تكريس معادلة القصف بالقصف والدم بالدم، والتي جاءت في إطار الدفاع عن المتظاهرين السلميين في مسيرات العودة من الاعتداءات الإسرائيلية عليهم؛ تلك المعادلة التي أنتجت جولات التصعيد العسكرية المتتالية، والتي كانت سبباً رئيساً في إسقاط حكومة نتنياهو في تشرين الثاني/نوفمبر 2018، في إثر تقديم وزير الأمن آنذاك، أفيغدور ليبرمان، بعد معارضته قبول وقف إطلاق النار مع المقاومة في غزة، بعد معركة "جحيم عسقلان"، والذي اعتبره ليبرمان رفعاً للراية البيضاء من جانب حكومة نتنياهو.
المحطة الثانية، أن أبو العطا كان المسؤول عن إنزال نتنياهو، "سيد الأمن الإسرائيلي"، عن المنصة بطريقة محرجة أمام جمهوره الانتخابي في مدينة "أسدود"، الأمر الذي اعتبره نتنياهو إهانة شخصية له تؤثّر في مستقبله السياسي برمته، وخصوصاً مع اتساع تداول الإعلام الإسرائيلي صورَ بهاء أبو العطا بصورة أساسية. وعلى الرغم من أن ذلك التداول يهدف إلى إرسال رسائل تهديد إلى أبو العطا، من أجل إبعاده عن استراتيجية المشاغلة، فإن استمرار "سرايا القدس"، بقيادته، في استراتيجية المشاغلة، جعله الحاضر الدائم في صفحات الإعلام الإسرائيلي. وفي كل مرة تُنشر صورة بهاء أبو العطا، يتذكر "الجمهور الإسرائيلي" إذلاله بنيامين نتنياهو، وهروبه من صواريخ أبو العطا إلى الملجأ.
ثالثاً: كانت "إسرائيل" تسعى، في تلك الفترة، للتركيز على الجبهة الشمالية والمشروع النووي الإيراني، مستغلةً وجودَ الرئيس الأميركي آنذاك دونالد ترامب. لكن، مع استمرار تسخين جبهة غزة من خلال استراتيجية المشاغلة، اعتبرت "إسرائيل" أن "الجهاد الإسلامي"، كجزء فاعل من محور المقاومة، تعرقل تلك المساعي الإسرائيلية. لذلك، حاولت طائرات الاحتلال الإسرائيلي اغتيال مسؤول الدائرة العسكرية في حركة "الجهاد" الحاج أكرم العجوري، الذي تطلق عليه "تل أبيب" العقل العسكري المدبِّر لـ"سرايا القدس"، والموجود في دمشق، في الوقت ذاته الذي تم استهداف الشهيد أبو العطا، الذي يُعتبر الذراع المنفذة الأقوى في "السرايا". وبالتالي، توجّه ضربة مزدوجة إلى العقل والذراع العسكريَّين لـ"الجهاد الإسلامي"، في آن واحد، من أجل شلّ القدرة العسكرية لـ"سرايا القدس"، وهو تكرار للخطأ ذاته الذي وقع فيه رئيس وزراء الاحتلال الأسبق، إسحاق رابين، عندما اتخذ قرار اغتيال مؤسّس حركة "الجهاد" وأمينها العام الأول، الدكتور فتحي الشقاقي عام 1995، اعتقادا منه أن حركة "الجهاد" مبنية على شخص الشهيد الشقاقي، رحمه الله.
لكن، بعد أقل من ستة أشهر، كانت "الجهاد الإسلامي" تنفّذ أُولى عملياتها الاستشهادية في "تل أبيب"، رداً على اغتيال الشهيد الشقاقي، تحت قيادة الدكتور رمضان شلّح، رحمه الله. في حالة بهاء أبو العطا، لم تنتظر "إسرائيل" أكثر من نصف ساعة بعد عملية اغتياله، لتُثبت لها حركة "الجهاد"، بقيادة أمينها العام زياد النخالة، فشلَ توقعاتها مع أول رشقة صاروخية من "سرايا القدس" في اتجاه منطقة "غوش دان"، معلنة بدء معركة "صيحة الفجر".